مجموعة نصوص ومحارضة أدائية 9 املكان آية نبيه 15 رس األصابع األربعة يوسف رخا 21 “ تثبيت” الدولة محمود عاطف 33 أن تنحاز لنفسك ضد اآلالف هبة رشيف 47 محاولة تخ ّيل الهروب محمد ربيع 57 أنثولوجي األزمات الدامئة | نص املحارضة األدائية محمد عبدالكريم 5 الهامش ّيون تحت عنوان “،”The Undercommons: Fugitive Planning & Black Study أصدر األكادمييان ستيفانو هارين وفريد موتني عام ٢٠١٣مجموعة نصوص تتناول الفكر االجتامعي والسيايس املعارص ،يف ضوء نظريات ومامرسات التقليد األفرو-أمرييك الراديكايل. ابتدع الكاتبان مصطلح “األندركومون” ودعا يف كتابهام إىل تبني ذلك املوقف املعني بالحق يف الرفض :رفض الحلول املطروحة باعتبارها الخيارات الوحيدة املتاحة للفرد أو للمجتمع ،ورفض ما يقدمه النظام كإقرار منه بالظلم الذي أوقعه عىل رعاياه الخارسين ،كام “أَنكر أن أي يشء كان بدل من ذلك ،يدعو الكاتبان إىل مكسو ًرا ،أننا مقهورون وعن استحقاق” .اً إسقاط النظام الذي ولّد الظلم وجعل منه وض ًعا منطق ًيا. وكذلك يف املقابل ،ال يسعى الفرد “األندركومون” إىل طرح حلول أو بدائل، ألن تبنيه ملوقف “األندركومون” يقتيض االنشقاق عن املواقف السائدة وتبني الالموقف .ومن موقعه عىل حدود املجتمع املهذب ،وبعي ًدا عن ضوابطه ،يسعى لدراسة الوضع ،ليس بهدف إنتاج املعرفة ،ولكن بغرض اإلعداد ملا سيأيت الحقًا .فيصبح مبثابة املشاهد الذي يدرس ويرفض :يرفض الخيارات والسلطة حيث “ال سلطة يف الربية” ،ويرفض االستقرار ،وميتنع عن طرح بدائل ألنه ببساطة ال يعرفها بعد ،وذلك “ألن ما نريده بعد حتم مختلفًا عام نعتقد أننا كنا نريده قبل إسقاطه”. سقوط النظام سيكون اً نطرح “الهامش ّيون” كمصطل ٍح نظري لـ“األندركومون” يف اللغة العربية، للتأكيد عىل أنه موقف مختار ٬ولتفنيد أي إيحاء باتخاذ موقع الضحية. وبالرغم من أننا مهمشون ،نختار أن نكون هامشيّني يف سياق النصوص التي تحويها هذه املطبوعة. 6 أجاب ستة مبدعني الدعوة لتبني املوقف الهاميش واالنطالق منه لتأمل الشأن املرصي العام بعد ٢٥يناير يف مامرسات نصية إبداعية ،متنوعة ما بني البحثي والتخيييل والفلسفي والسريي. وأخ ًريا ،يف ظل تضاؤل الخيارات وح ّدتها التي طاملا و ّجهت الحراك السيايس املرصي منذ ٢٥يناير ،ندعوكم ولو بشكل مؤقت ،أثناء مطالعة النصوص التي بني أيديكم لتبني املوقف الهاميش وتأمل مطلب إسقاط النظام ،الذي برز يف يناير ،وإدراك معناه وفقًا للمفهوم الذي ورد يف كتاب “األندركومونز”، لعلنا نستدعيه يو ًما ما بوعي مغاير. دينا الديب 9 املكان آية نبيه مدينة 1 من أين يل باالتزان؟ كل ما حويل مختل. توقفت مؤخ ًرا عن مغادرة املنزل يف النهار تجن ًبا لوضوح الرؤية ،أ ّما عن ُ الليل فرصت أقضيه يف اإلنصات إىل مواء القطط املجتمعة أمام البوابة. نداء ضائع خلف أصوات السيارات األخرية ال يهتم أحد لرثائه ،كأن الكل مدرك أن نهاي ًة ما توشك أن تحدث سيتوقف معها كل نداء عىل أي حال، سنفقد حامسنا ألن نقول شيئًا يف املضارع ،ولن نجرؤ أن نقول :يشء ما سوف يكون. صحراء مدينة 1 ُ أخرتق جمو ًعا تهتف بالسواد، للوصول إىل هنا يل تخيل هياكل بينام أتنفس هوا ًء ال يخصني .وألين أصل ليالً ،يكون ع ّ األحياء املائية التي يفرتض أنها تحيطني ،حيث كانت تعيش يو ًما قبل أن أحس مبرور الثعالب من حويل وميكنني أن أرى منها يجف قاع املحيطّ . ّ “سيلويت” ،أقرب لق ٍّط كبري يف حجمها وأكرث جرأة يف إيقاعها .أستلقي تحت السامء نفسها التي تركتها هناك ،مع فارق وحيد :نجو ُم هنا ال تدخل يف منافسة مع أضواء شوارع املدينة .أنام ،فأحلم بجموع تهتف بالسواد. مطار أحرتس أثناء السري، ُ آخذ حقيبتي ونفيس إىل املطار .مبدئيًا ،أنا وخريطة رحلتي واحد. 10 مدينة 2 ألف ليلة وليلة ويوم طويل وتسبقني حقيبتي إىل الفندق ،ويقيمون مطاعم الساحة ويرفعونها يوم ًيا، ويصطادون زجاجات املياه الغازية بصرب ،ويفرتضون أصويل الالتينية، ويقابلني عدد هائل من الالفتات ،ويجتاح الربتقال وأعوانه األشجار عىل طريقة “التايم البس” ،وأُنصت إىل ابتكا ٍر غري مقصو ٍد للّغة ،وأكون يف حفل ليل يف محطة قطار ،ومت ّر عرش يل اً ال أعرف فيه أح ًدا ،ويسقط أول مطر ع ّ أفسها بعدّ ، وتدق السابعة صبا ًحا عىل الشاطئ. ساعات يف قطار مل رّ شاطئ مدينة 2 املنطقة الحرة ،ميناء الصيد ،ممنوع التقاط الصور ورمي األزبال والصيد. وماذا عن الغرق؟ أغرق يف كل ما أفعل ،وكام يحدث يف النوم وامليش والكالم والسكوت أغرق يف أسامك فضية صغرية جاءت يف رحلتها األخرية مع موجة إىل الشاطئ ومل تعد إىل البحر ،انتهت حياتها عند صخرة ُحفرت خصيصا لكل منها ً عىل سطحها قبو ٌر تناسب أحجامها ،كأنها قوالب تك ّونت مع تك ّون الصخرة .األسامك األخرى التي عادت مع تلك املوجة مل تدرك عىل األرجح أنها فقدت أفرا ًدا من مجموعتها .األسامك متشابهة وعددها الكبري ال يسمح ألفرادها مبالحظة اختفاء البعض ،وأفرتض أن الحياة تحت وكل سمكة منشغلة بحالها .أمتىش عىل الشاطئ ألجمع بعض املاء صعبة َّ األصداف وأضعها أمام الصخرة ،هكذا تُزار قبور الشواطئ ،لكني أغرق يف الطريق إليها. 11 مطار ألجل راحتك سننتقل إىل صالة صامتة، داخل بناية ضخمة تنتمي نظريًا إىل بلد ما ،لكنها مل تتلوث به .مجتمع املظاهر املعلبة غائب عن هنا ،يحل محله مجتمع يتك ّون ويتفكك عدة مرات يف اليوم الواحد .أنفصل عن كتلة الحياة اليومية يف مدينتي ،وأقيض ساعة تقريبًا يف انتظار الصعود إىل الطائرة بعد التفتيش األخري .ساعة، تفصل الوجود عىل األرض عن الصعود إىل السامء ،هي األكرث سال ًما يف تظل الرحلة .وإذا ح ّملت كلمة رحلة معنى أكرب رغم خاليف مع املجازّ ، الجملة صحيحة .أختار كرس ًيا يف الكافيه القريب من بوابتي التالية ،وأحاول أال أفكر فيام تركته ورايئ أو ما ينتظرين .يستأذن أحدهم ملشاركة الطاولة الصغرية معي الزدحام املكان وينشغل مع هاتفه املحمول ،بينام أراجع طقس املدينة التي أتجه إليها. مدينة 3 نحن سعداء بعودتك وغري مهتمني عىل اإلطالق. هكذا تستقبلك هذه املدينة .كل يشء كام تركته يف الزيارة األخرية ،تقريبًا، غري أن الحصار ظهرت آثاره يف هاشتاج املجد عىل شاشات املطار ،ويف سوبر ماركت أتوقف عنده حيث استُبدلت منتجات ألبان دول الحصار مبنتجات الدول الحليفة التي ال يعرف أغلب سكان املدينة لغاتها ،لذا ُوضعت الفتة بـ “أبرز املصطلحات الغذائية” باللغة األجنبية ومقابلها ،مثل :حليب ،بيض، لنب ،كامل الدسم ،قليل الدسم .أيضً ا ،السيارة التي اكتشفنا بها املدينة مل تعد هنا كصاحبها ،سأخربه أن ذلك أفضل ج ًدا ،عىل األقل لن أضط ّر لسامع 12 املزيد من موسيقى التكنو عىل الطريق .أبتلع التغيريات بال صعوبة ،وأعاود احتالل شقتي ،وقبل أن أستعيد الحياة التي تركتها هنا أسارع بفتح الحقيبة ألُخرج سيلفيا بالث ،ال أريدها أن تختنق مرة أخرى. مطار مهارات جديدة أكتسبها؛ فهذه املرة أنجح يف حزم كل أغرايض يف حقيية واحدة بدالً من اثنتني .اآلن لدي حقيبة واحدة ،ثقيلة ج ًدا ويستحيل حملها. ّ مدينة 1 لسبب مجهول انقطعت دعوات حرق ها املدينة. ولألسف ،أو لحسن الحظ ال أدري ،ال يبدو أن نهاي ًة ما توشك أن تحدث. الكل منهمك يف البحث عن حلول لتأخريها ،والرتويج لس ْيل من االخرتاعات املوجهة لخدمة إنسان املدينة املعارص :تكييف متنقل ،شطّافة محمولة، كعب بالستييك لحامية الحذاء أثناء القيادة ،صوبات برشية زجاجية مكيفة َحل فعال للقضاء الوهميومعقمة وعازلة للصوت ملحبي امليش يف املدن ك ٍّ عىل التحرش اللفظي والجسدي وانتهاك الخصوصية والضوضاء والرتاب ومساعدة املواطن عىل النمو يف بيئة صحية والحفاظ عيل سالمته العقلية. تطورات هائلة. 13 ال ميكن تحديد موقعك حل مقرتح قدمي سأحتفظ باملدينة الواسعة يف رأيس ،وقبل العودة بفرتة مناسبة أجه ّز ّ عىل تحمل الجوع للميش الطويل .الخريطة التي معي ستنقذين إن فشلت يف ذلك .سأعترب باب منزلنا مثالً هو باب الفندق ،وأخرج منه إىل اتجاهات اعتدتها هنا (ولتتحرك البنايات قليال إىل أن أم ّر ،معرفتي بالطريق تضمن يل تعاونه) هكذا ال تشغلني العودة إىل مدينتي الضيقة ،كام أين سأكتشف طرقًا جديدة ألماكن ال يهمني إن مل أصل إليها. 15 سر األصابع األربعة يوسف رخا إشارة يستعملها أعضاء طائفة باطنية للتعرف بعضهم إىل بعض ،وإنهام - بآخر تجليات ما يسمى باإلسالم قبل انقراض الطائفة وإشارتها -متّصلتان ِ املنظومة .وقع االنقراض تدريج ًيا قرب نهاية ألفينيات التقويم السابق كام هو معروف ،لك ّن الحروب واملجاعات التي سبقته مل ت ُبق من آثار هؤالء الشباب عىل كرثتهم إال أحفا ًدا متفرقني يجهلون كل يشء عن أجدادهم ،ال يعرفون من عقائد وسلوكيات أولئك األجداد إال أسامءها ،واألهم أنهم ال فعل .إذن -قيل -هذه اإلشارة قد تكون يعرفون يقي ًنا إن كانوا أحفادهم اً هي الحاوية الوحيدة الباقية للمنظومة العقدية والسلوكية املسامة اإلسالم، وإن مل يكن ذلك يف حد ذاته ذا جدوى؛ حيث أن جهلنا مبدلول اإلشارة س ُيبقي محتواها خف ًيا ،ومن ثم ال ميكن أن تفيدنا يف معرفة املزيد عن تلك املنظومة أو تفاصيل الظروف املحيطة بانقراضها .كان انتشار منظر األصابع مثني -يف التجمعات األربعة لليد اليمنى مرفوع ًة ومفرود ًة -واإلبهام ّ االفرتاضية -بالذات منها املتصل بالدفع الشعبي واستعادة التحركات - لفَت نظر أحد الشيوخ ،ثم قرينه الذي شهدها وج ًها لوجه يف إحدى ساحات املتعة .لقد اتفقا عىل أن مستخدمي اإلشارة عىل اختالف أوضاعهم يَبدون متحفزين وحزاىن .وباستجواب عينة من هؤالء املستخدمني تبينّ أن هذا ما يشعرون به بالفعل ،إال أنهم ،وبال أالعيب ،ال يعرفون ماذا تعني اإلشارة وال ما يدفعهم إىل استخدامها .هكذا بدأت القصة مع مثقفي الربج الذين استَجوبوا العينة .لكن ألول مرة ،عرب حديث الشيخ وقرينه ،اتخ َذتْ مالمح سؤال ثقيل يسعى َ مالحظة عابرة عن ظاهرة ال تبدو ذات جدوى الشباب إىل اإلجابة عليه وكأنهم جميعاً يعانون حمله .أصبح السؤال ،كام كان يقال يف العصور السحيقة ،قضية عامة .الشيوخ أنفسهم انشغلوا باألمر 16 كام مل ينشغلوا بيشء يف الذاكرة الحارضة .وبدأت جهات مختلفة -إما سعيًا إىل إرضائهم واالستفادة منهم أو بحثًا عن أمجاد موازية -تج ّند الفنانني واملقاتلني العاملني لحساب أنفسهم ،إىل أن عاد األمر إىل الربج فتبناه املثقفون رسم ًيا ،وصدرت إمياءات بإحضار املعلومات واملساهمة تلبي ًة لطلب شيوخ العامل .هكذا استُدعي مصارعو األرشيف يف البداية ،وهكذا انتقل املوضوع من حيز التخمني والالمباالة إىل حيز البحث والدقة .نعم .يف البداية قيل إن اإلشارة هي إحدى إمياءات ميليشيا املثقفني العاملة لدى كارتيالت الكهرباء يف القرن املايض ،واملعروفني بالليزر الستخدامهم رشاشات تشبه ذلك النوع من الطاقة الضوئية .قيل أيضً ا إن أصلها يعود إىل عالمة النرص :حرف Vوقد تضاعف ليصبح W؛ وكام أن Vيف اللسان هو أول حروف كلمة نرص Victoryفـ Wهو أول حروف كلمة حرب .Warأشار املصارع املسئول عن هذه األطروحة إىل أنه أيضً ا نرص مزدوج أو هكذا كان يفكر فيه بعض مستخدمي اإلشارة بهدف التربك أو اإلحامء أو غري ذلك، وأضاف إن استخدامها مل يكن حك ًرا عىل هؤالء الليزر وال اقترص عىل معنى واحد يف أي مرحلة من مراحل التاريخ .لك ّن ِذكْ َر الليزر يف حد ذاته ،بني املثقفني واملصارعني ،بات مناسبة الستدعاء حكاياتهم وأساطريهم داخل الربج ثم عرب قنواته املفتوحة لدى الشباب عامة .ومضت شهور واستحضار الليزر أمر ي ْومي ومحبب بكل ما فيه من تفاصيل :كيف كانت دورياتهم يشل دون أن يؤدي إىل االختناق، ترش الضحية ُمبركّب سحري قادر عىل أن ّ ّ بالذات؛ كان هذا املركّب -وتلك عبقرية املستحرضات الكيميائية طوال تلك الفرتة -ال يُف ِقد الضحية قدرتها عىل الشعور بالوجع .وكان الليزر ما إن يرشّ وا أحدهم فوق إحدى الجزر املرورية حتى يسلّطوا عليه العدسات 17 املقربة واملكربة ليتمكن الجميع من رؤية ما يحصل معه عىل الشاشات العامة ،ثم يهبطوا عىل الجسد املشلول بأدوات الحرق والجرح والهري الشفافة ليمثّلوا عىل سطحه إحدى القصص امللحمية املعروفة ،إما صامتة أو مع حوار عىل خلفية موسيقية كام هو معتاد :قصة غزو الفضاء ،قصة حروب األمم ،قصة ارتفاع الحرارة ،قصة الفطر النووي .يكون التمثيل عىل سطح الجسد مبارشة وقد اقرتبت العدسة من املساحة املقصودة بحيث ال يُرى سواها ،وعادة ما يُستفاد من الوجه أيضاً :األنف ،العينني ،الدماغ؛ عىل أ ّن تقييم األداء ليس فقط عرب تمَ َثُّل القصة بصورة مقنعة ومؤثرة إضافة إىل جامل الصورة املتحركة وإمنا أيضً ا بحجم الوجع واألذى الذي يستطيع املتفرج تقديره عرب املشاهدة بخربته وإدراكه وحسه املرسحي؛ فالعرض قاتل الناجح هو ذلك الذي يوجع إىل حد يفوق التصور ملحقًا بالضحية أذى اً وهو يحافظ يف الوقت نفسه عىل كامل وفعالية التكوين من جانب املحتوى والجامليات .فرغم فوات كل هذه السنني عىل آخر إتشنج كام كانت تلك العروض تسمى ،نسبة إىل عملية الحفر يف العظم التي تدور حولها -ورغم أن أح ًدا من املوجودين اآلن مهام بلغ من العمر ال ميكن أن يكون حرض أحد هذه اإلتشنجات أو شهد أحد أعضاء الليزر وجهاً لوجه -مل يكف استحضار الشباب ألولئك املثقفني املرعبني بأجسادهم الضخمة الخالية من الشعر ومالبسهم الشفافة وحركاتهم الخفية .ثبت أن الليزر كانوا يوجهون األصابع األربعة إىل العدسات قبل وبعد كل إتشنج عىل سبيل تحية الجمهور بالفعل .ومن ثم انطلقت مجموعة موازية من البحوث واالستقصاءات حول عالقة الليزر باملنظومة سالفة الذكر مل ت ِ ُفض إىل يشء. وتعددت التك ّهنات حتى متكن أحد مصارعي األرشيف من فك شفرة 18 مخزون نصوص متعلقة باملنشأ التاريخي لإلشارة مصدره أحد أهم مرتكزات أول فضاء افرتايض شامل ،ذلك املعروف يف اللسان بكلمة Internetوأحيانًا ما كان يسمى الشبكة العنكبوتية .كانت النصوص مكتوبة باللسان كام كانت مكتوبة بكالم املكان املحيل وكانت تعود إىل زمن الظهور األول لإلشارة قبل وبعد الواقعة األم .املوضوع معقد واملقاتلون كثريون؛ فبمجرد ما فك ذلك املصارع الشفرة وتأسست حاوية النصوص أخذت تعديالت زمالئه تتواىل عليها وبدأت وجهات النظر والروايات املنبثقة عنها تتعدد وتتنوع ،بالذات حني ُجلِبت حاويات نصوص أخرى ا ُّدعي أنها متعلقة بالحاوية األوىل أو متداخلة معها .املفارق أن شيئًا من كل ذلك مل يضف أي معلومة جديدة إىل معرفتنا باملنظومة أو املثقفني ،ومل يكن له تأثري يذكر عىل األرشيف ،غري أنه شفى غليل الشيوخ وأرىض فضول الشباب .واملتفق عليه يف الحكاية ميكن اختصاره إىل خطوط عريضة أولها أنه ظهر وسط الدنيا الكبرية حيث يعيش شباب عادي دنيا أخرى صغرية أقامتها مجموعة من معتنقي منظومة اإلسالم تلك واعتربتها الدنيا األفضل أو -بتعبري سحيق آخر -املدينة الفاضلة .وليس واض ًحا إن كان بقية شباب هذه اللحظة هم من غري معتنقي املنظومة ،فقد يكون مقيمو الدنيا الصغرية هؤالء اعتنقوا تنويعة باطنية أو تفريعة دفع شعبي من داخل منظومة حاصلة بالفعل. قسم نشيط من الدنيا األكيد أنهم أقاموا دنياهم عىل شكل مربع وسط ْ وجعلوا لها أربعة أعمدة افرتاضية توازي األسوار املادية التي اصطنعوها ضد إرادة الشيوخ والشباب عىل حد سواء :إن الدنيا الكبرية خطأ؛ إن الكون كله باستثناء تلك الفقاعات التي تتبع منظومتهم خطأ؛ إن الخطأ إما أن يصحح أو يُحارب بهدف إبادته؛ إن الدنيا الكبرية ترفض أن تصحح وبالتايل 19 رضوري أن تباد .لذلك فإن أولئك الذين أقاموا الدنيا الصغرية كانوا يرون بقية الشباب أعداء يستحقون املوت ،وكانوا ميعنون يف كرس قوانني األذى املعمول بها يف الدنيا الكبرية والكون ومامرسة ما يعتربه الشباب آثا ًما بحجة أن منظومتهم تحض عليه .لكن األهم أنهم أخذوا يسعون إىل هدم الدنيا الكبرية ما مل يتمكنوا ولن يتمكنوا من السيطرة عليها ،ليس فقط بهدف جعلها مثل دنياهم -حيث السلوك والعقيدة ينطويان عىل درجات غري رضورية من األذى ومينعان فعاليات حلوة كثرية -ولكن أيضً ا بهدف االنتقام من الشباب وتطويق الكون .لذلك كان الرأي أن شباب الدنيا الصغرية هؤالء يجب أن يُد َمجوا يف الدنيا الكبرية فن ًيا إن مل يكن باملصارعة .لقد ج ّرب املصارعون واملتطوعون من مختلف العاملني لدى الشيوخ أن يتحدثوا إىل أصحاب األربعة -كام صاروا يسمون -بال فائدة .ناقشوهم وجادلوهم. ق ّدموا إليهم تنازالت .لكن أصحاب األربعة ظلوا عىل عنادهم وقناعتهم، وكان أهم ما يرصون عليه الحفاظ عىل دنياهم الصغرية وحق إيذاء الشباب املحيط .هكذا وبعد شهور من الخطر والوجع وشكوى الشباب املحيطني واألبعد ما كان من شيوخ الدنيا الكبرية إال أن أوفدوا فريق مثقفني بأدواتهم ح ّوطوا املربع املنطوي عىل الدنيا الصغرية فه ّدوا حوائطه وهاجموا ح ّراسه وأمروا شبابه أن يغادروا وينمدجوا عىل الفور .وعندما أبدى أصحاب األربعة استعدا ًدا للمقاومة وأشهروا أدواتهم يف وجه املثقفني -والخالف قائم حول ما إذا كان املثقفون املوفدون ترصفوا مبباركة الشيوخ والشباب أو من تلقاء أنفسهم -ح ّولوا املربع إىل بِركة دم ظلت بقايا أصحاب األربعة عامئة فيه أيا ًما بينام األوضاع تتحجر .لقرون بعد ذلك ،فيام توالت الخطوب واندمجت الدنيا يف الكون وانقرضت املنظومة املسامة اإلسالم ،ظل الباقون 20 من أصحاب األربعة واملتعاطفون معهم يرفعون أصابع أيديهم اليمنى ويفردونها واإلبهام مثني تذك ًريا بالدنيا الصغرية التي كانت وشبابها الذي تحول إىل بقايا عامئة يف الدم .لقد كانت أحد تلك األلغاز يف تاريخ الشباب: تصميم عىل البقاء والنرص .كان اً إنهم عالمة هزمية وانقراض ،لكنها تستخدم مثقفو الربج أول من اضطلع باألمر ،استجابة لتساؤالت ذلك الشيخ وقرينه. لكنهم يف غياب املعلومات ظنوا اإلشارة أضحوكة أو حالة هوس جامعي .ومل تكن استعانتهم مبصارعي األرشيف يف البداية إال عىل سبيل االطمئنان .غري أن رد فعل املصارعني أثار املثقفني والشيوخ والشباب عمو ًما حيث أكد هوسا جامع ًيا للجميع إن األمر أبعد ما يكون عن أضحوكة وإنه وإن كان ً بالفعل فوراء ذلك الهوس أكرث من حكاية .هكذا بدأت قصص األرشيف تتواىل ،قبل اكتشاف قصة الدنيا الصغرية وبركة الدم .قيل إن األصابع األربعة عالمة استسالم لدى ميليشيات شامل أفريقيا املتحاربة عشية االنهيار األكرب .وقيل إنها جزء من تكوين إحدى رقصات الجنوب .ثم قيل إنها 21 “ تثبيت ” الدولة محمود عاطف أحد أنهل ميكن أحد أن يلتقط صورة للموت؟ بعبارة أخرى :هل بوسع ٍ أصيل للموت؟ قد يُنظر متثيل اً يقبض عىل لحظة جوهرية ومج ّردة باعتبارها اً للاميض عىل أنه صورة للموت ،صورة ملا ال ميكن استعادته ،أو ملا ال ب ّد من تخطيه ،لك ّن هذا إذا صح عىل مستوى اللغة ،بتلك الطبعة الح ّدية والفاصلة بني املايض والحارض واملستقبل ،فإنه ولجهة تاريخ الشعوب واملجتمعات اإلنسانية يبقى أم ًرا جدي ًرا باملساءلة ،إذ يظل املايض والحارض واملستقبل يف حالة تفاعل دائم ،وليست صورة املايض إال ابنة الحارض ،والحارض نفسه شكل من متظهرات االثنني. عمل من أعامل املايض ،كام يكون املستقبل اً بالرجوع للصورة ،يع ّرف روالن بارت الفوتوغرافيا باعتبارها لحظة قنص للموت ،إنها القبض عىل ما ال ميكن تكراره؛ فاللقطة التي تث ّبتها الكامريا ال ميكن الرجوع فيها وإليها -خارج إطار الصورة -م ّرة أخرى ،إنها صورة ملا مات ،صورة للموت .هل يعني ذلك أن املوت هو ما ال ميكن استعادته ،ما ال يتوافر الرتاجع فيه؟ قد يكون املوت أيضا هو معنى االكتامل هذا :القبض رصا بوقت قنصها؛ بإمساكها يف عىل لحظة زمنية يرتبط متامها واكتاملها ح ً حالتها الصفرية حيث هناك ما قبل وما بعد ،إنها (اللحظة) إذ تصل لذروة امتالئها بذاتها تزامنا مع لحظة القنص ،فيكون ذلك إعالنا مبوتها. ما يجمع لحظة القنص هذه مع الحالة الصفرية ليس فقط أن الصفر تا ٌم مبوته؛ مكتمل بفراغه ،بل كذلك أنه يثبِت لغريه ما ال يثبته لنفسه ،قيمته ليست يف ذاته فقط ،وكذلك أيضا مبا ميثله كمحطة انتقالية بني األرقام املوجبة والسالبة ،أو حتى بني تضاعيف األرقام ... ،30 ،20 ،10إلخ .الصورة أيضا يف موتها تجمع إىل مايض تك ّونها الخاص ،إمكانية لحياة مستقبلية. وهنا تكمن إحدى مفارقات الصورة :بتثبيتها للحظة ميتة من غري املمكن 22 استعادتها ،فإن الصورة تصبح يف وجودها املستقبيل عالمة حياة ،ليس فقط باستدعائها كذكرى ملا ومن كان ،ولكن باعتبارها بديال ممكنا للحياة، هامشا يقرتح حيوات بديلة للموت الذي هو كائن أو كان. كذلك الصفر وتضاعيفه عىل يسار أي رقم هو احتاملية النهائية لعديد األرقام .هل معنى ذلك أن العدد امليت يف ذاته (الصفر) مينح غريه مزي ًدا من احتامالت الحياة؟ الصفر عىل يسار األرقام هامش ،من املحتمل أن يُك ّون متنا جدي ًدا ،لكنه يظل بقيمة حضوره امليتة هامشً ا جوار منت موجود .إن الهامش يعطي للمنت قيمة وجوده كام يأخذ أيضا من املنت قيمة وجوده هو كهامش .ال هامش إال بوجود منت ،واملنت تتضاعف حظوظ التفاعل معه بوجود هامش له أو أكرث .إنها عالقة وجود واعرتاف متبادل. ***** كان أيب تقريبا يف الثالثة من عمره ،يتمدد أمامي عىل طاولة معدنية بيضاء، قوامئها نحيفة جدا وطويلة جدا ،وليك أصل أليب وأرى ما به يف استلقائه الصامت عىل الطاولة ،كانت رقبتي تستطيل من مكاين بينهم كام تكون لزرافة ،أرمقه وأعود بعدها لحجمي الطبيعي وأخرب من حويل بحالته. مل أكن أعرف عددهم وال من هم ،إال أن القلق البادي عىل وجوههم ييش بصلة قرابة أو مصاهرة. مل أكن طبيبا فيام أعرف ،لكني أَقدرهم عىل التواصل مع الجسد املس ّجى، اعي .كان األمر بسيطا أمط رأيس فتتمدد ألعىل بتدرج ،وكذلك أفعل بذر ّ 23 افقي كنظرة أرميها ،ما إن أرغب فيه حتى يحدث ،وكنت أملح يف عيون ُمر ّ حس ًدا وغريةً ،وال أعلم تحديدا إن كان ذلك فقط لليونة جسدي ،أم ألن هذه الليونة تحديدا متنحني إطالالت -ال تتوفر لهم -عىل أيب. قال أحدهم من بني بكائه “ماله يا ابني؟” ،كان طفال مثل أيب ،أكرب قليال لكنه طفل .ومن أنت؟ سألته .لكن نشيجه زاد ومل أم ّيز شيئا من كلامته. انتحب كثريا ،وحاول من حوله تهدئته بال جدوى. تركتهم يالطفونه ،وصعدت أليب ،كان وادعا ومبتسام ،عيونه نصف مفتوحة كام حال معظم أفراد عائلتنا وهم نامئون .لو رآها هؤالء الذين ال أعرفهم لرمبا يخافون .أود لو أقول لهم إن الذي به هو عيونه نصف املفتوحة. لكن ماذا لو أنهم من العائلة؟ ليس ذلك مرضا كام يعرفون ،وسيواجهونني بكذيب“ .إنه طفل ،وإذن يريد لعبة أو شيئا من هذا القبيل” قلت لهم وأنا أنظر من علياء رقبتي بجوار فراشه األبيض ،نظر واحدهم لآلخر مبتسمني لبساطة الطلب ومندهشني لغيابه عن خاطرهم. كان الطفل األكرب قليال من أيب انتهى من نحيبه ،وملعت عيناه بصفاء من خلف قطرات امللح ،وشبح ابتسامة خافتة عىل وجهه بينام أنفاسه الالهثة تهدأ ،أشار إ ّيل ألرفعه أليب ،وهناك باألعىل كانا يلعبان سويا. ***** ال يولد اإلنسان فردا ،إمنا داخل جامعة تشكّلت حدود معرفتها بالعامل قبل وجوده .تشمل هذه املعرفة اللغة وإشاراتها الدالة لهذا العامل سابق الوجود .نستقبل العامل إذن عىل أرض ممهدة قَبال ،نتلقاه كام هي عملية 24 الرضاعة .بكالم آخر :نولد يف حضن اللغة ،كام يقول تزفيتان تودوروف. وحياتنا يف أحد تجلياتها مجاهدة مع املنت السالف وتصوراته سابقة التجهيز ،إما بتحوير مضامني اللغة ودالالتها ،أو بخلق هامش بديل وجديد: ُوطي الجنس” كإشارة موضوعية ملا تدل عليه ،فيام يقول يقول البعض “ل ّ يل الجنس” بانحياز ينافح يف ذاته -بسبب من السياق الحاضن آخرون “مث ّ -عن اختيار جنيس مغاي ٍر يف وجه من يرصخون “شواذ” مبا يف الكلمة من دالالت سلبية يحملها سياق الرصاخ نفسه كام ماضيها السيئ القريب. اللغة ليست محايدة إذن ،وكل منت يخلق لغته ليسيطر بها عىل عامله؛ إذ أن السيطرة عىل العامل تتم عرب تسميته .وليست التسمية مجرد اإلشارة، بل إنها تشمل كذلك معاين التفسري والتعليل والرشوحات .إنها تقدم صورة شمولية وعامة .سقطت التفاحة عىل رأس نيوتن فق ّدم للعامل نظريته عن الجاذبية .إنها رؤية للعامل تتيح فهمه والقبض عليه .تصنع اللغة ذلك ،لغة األديان أو لغة العلم أو لغة األيديولوجيات الكربى أو لغة السلطة :إنها تضع العامل بني دفتي كتاب ليسهل عىل املؤمنني تفسريه ،ومن ثم الثقة يف سيطرة متنهم األعىل عليه. لكن ماذا لو تسلل الشك لقلوب بعض املؤمنني؟ ماذا عن غري املؤمنني ابتدا ًء بالصورة التفسريية التي يقدمها املنت؟ حني ينخر الشك ذوات املؤمنني فإن املنت صاحب الحظ األوفر من الذكاء /الخبث ال يجعل نفسه منغلقا عىل مفسة وجامعة ،لكنه مع ذلك يُبقي بها بعض املنافذ القابلة ذاته ،إن لغته رّ إلعادة التأويل وتقديم تفسريات جديدة ،وحتى لرسيان هواء املعارضة، ولو بقدر ضئيل .إنه ذكاء ضامنة الوجود واستمرار فاعلية الهيمنة. عرفت الكتب العربية قدميًا -قبل دخول املطبعة -شيئا من هذا املنت 25 املفتوح عىل هامش واسع .كان تصميم الكتاب العريب يتيح ملقتنيه أن يكتب يف الهوامش العريضة لكل صفحة ما يع ّن له إزاء ما يقرؤه ،إما اسرتسال أو تعليقًا أو رش ًحا أو تكمل ًة وخالفه .ولتمييزها عن اً معارض ًة أو املنت فإن تلك الحوايش كانت تُكتب عىل سطور مائلة أو حتى عشوائية يف تنظيمها ،وبألوان مختلفة أحيانًا عن كتابة املنت .بعض هذه التعليقات طالت وكرثت بحيث أنها قاربت أن تصري كتبا ،فلم تظهر الكتب املتون فيام بعد عىل أيدي ال ُن ّساخ إال ويف هوامشها تلك الرشوحات باعتبارها كتب الحوايش ،ويف أحايني أخرى انفصلت الرشوحات لتصري كتبا مستقلة بذاتها. صارت الهوامش تنافح املنت يف وجوده ،بحيث مل يعد املنت مع ّرفا إال بحواشيه ،كام أن الهوامش اكتسبت وجودها من ذات املنت وعىل أرضه. مرة أخرى :إنها عالقة تجاور واعرتاف متبادل. ***** كنت يف حجر أيب ،أرتدي جلبابا أبيض فضفاضا ،وأمام بيت بدا شبيها ببيت العائلة طبل وزمر وأفراح وخلْق كثريون .أنا يف الثانية من عمري ،ومن رشفات البيت العديدة تطل نساء ،أعرف بعضهن وال أعرف الكثريات ،لكن الجميع رجاال ونسوة يبتسمون ويضحكون ويرتاقصون حول حصان أسمر اللون ،من املفرتض أين سأركبه بعد قليل مع أيب .ومير أحدهم مباركا ،شاربه فخذي ّ كثيف ويداه غليظتان ،فينهض أيب من جلسته ُمر ّح ًبا ،ليشتعل ما بني نا ًرا حامية .يداعبني الرجل ويسألني عن مكان البلبل وما جرى له ،يضحك أيب من الخد للخد ،ويقول املبارِك :خالص ،بقى راجل بقى .ثم ميد يده 26 بظرف يف حجري؛ “نُقوط مطاهريت” كام أعلم ،ويربّت عىل كتفي ويده تتحسس شاريب .شاريب؟! واختفى بعدها شارب الرجل .توترت مل ّا رأيتني بهذا اليشء عىل وجه طفولتي ،تقلّصت بطني وأحسست مبثانتي تحتقن. وال يبدو أن أح ًدا الحظ شيئًا مام يحدث ،فالفرح والضحك يزدادان صخبا وعنفوانا. ثم جاءت راحتي وكانت سخونة انطفأت عىل إثرها ضحكات الرجل ذي الشارب املختفي .بللته وبللت نفيس بدفقات ماء حارقة ،فطفق أيب يتأسف وحملني مرتبكا من يد الضيف ،والرجل ميسح آثاري مام مس جلبابه األبيض الفضفاض. ***** ماذا لو تسلل الشك لقلوب بعض املؤمنني؟ ماذا عن غري املؤمنني ابتدا ًء بالصور التفسريية التي يقدمها املنت؟ حني ينخر الشك ذوات املؤمنني فإن امليدان األول ملنازعة املنت يف أرضه مير بدهاليز اللغة ،ألنه “من املستحيل التخلص من عالَمٍ دون التخلص من اللغة التي يتسرت وراءها ،وتضمن وجوده ،أي دون أن نجعل حقيقته يرسخ املنت سلطته عرب لغة ثابتة وعامةعارية” كام كتب مصطفى خ ّياطيّ . وفاصلة؛ مختزلة وبال جامليات؛ ولذا فإنها لغة شعبوية متكّنه من حشد أنصاره خلفه بسهولة .ويف مقابلها يطرح الهامش ترتيبا جديدا لكل يشء، أ ّولها لغة املنت ذاتها عرب “اختطافها” ومحاولة قلبها عىل وجهها .وبدال من ات تائهة ،ينخر الهامش لغة املنت ليع ّريها من عموميتها ،ويفتح فيهااستعار ٍ 27 بابًا مكشوفًا عىل فضيحة. “االختطاف” أحد التقنيات التي ط ّورها “املواقفيون” -ما بعد أحداث مايو 68يف فرنسا -عن مفهوم الرسقة األدبية عند لوتريامون ،والتي يعتربها رضورة ألنها “تط ّوق جملة املؤلف وتستعمل تعابريه ،متحو فكر ًة خاطئ ًة وتستبدلُها بفكر ٍة صائب ٍة” عىل ما ينقله عنه عبد القادر الجنايب يف تربيته. أي سلطة، يقتيض االختطاف والحال كذلك لعبًا عىل كالم السلطة /املنتّ ، بتقويضه من داخله وباستعامل مفرداته .لرشح عمل االختطاف “حيث ت ُستبدل بعض الكلامت بأخرى مع االحتفاظ ببنية الجملة األصلية” ،يورد الصغَر ينفعك يف ال ِكبرَ ، الجنايب الجملة التالية قبل اختطافها :ما تعلّمتَه يف ِّ وها هي بعد االختطاف “تكشف عن وظيفتها القمعية” :ما تعلّمته يف الصغر يقم ُعك يف الكرب .يصبح كذلك “األمن القمعي” بديال ملفهوم فضفاض كاألمن القومي. يف العاملينْ ،عامل املنت وعامل الهامش ،اللغة إحدى مقومات وجودهام، وأساس صورة كل واحد منهام يف تقدميه لذاته .لك ّن املنت ال يلعب باللغة، إنه يس ّمي العامل ببساطة .لذا لو صح أن اللغة ال تكتسب قوتها من املفردات وال ُجمل؛ أو أن سلطة الكالم ال تحصل مبجرد النطق بعباراته ،أي بحالة البالغ ،إمنا يحمل الكالم معناه من موقع ُمبلّغه ،مبكانه االجتامعي والرأسامل الرمزي الذي ميثّله؛ أن قوة الكالم ليست من داخله ،أو ليست أساسا يف داخله ،بل يف الصولجان الذي يرفعه الناطق به ،فهل تكون لعبة ً “االختطاف” بال جدوى؟ بال جدوى ألنها من ل ُدن خطاب بال سلطة؟ عىل ما تشري األمثلة السابقة ،فإن خطاب االختطاف ليس لغة جديدة ،إنها لغة املنت بتفجري عنارصها من داخلها .ذلك ألن الهامش ال يطرح نفسه 28 كمعكوس صورة املنت ،بل يخلخل بأدواته سلطة املنت من داخل أرضه .وإذ يق ّدم الهامش نفسه فإنه يرسي يف ذات غريه ،إنه يُك ّون ذاته من تفتيت ذات أخرى ،وهنا تكمن فاعليته :إنه ال يقيم يف الربية ،بل عىل أطراف أرض املنت ذاتها. ***** مل ّا دخلنا ثالثتنا ،صاحوا جمي ًعا :ميوت الزعيم! تع ّجبت ،ال لهتافهم ،بل ألنهم كانوا مبتسمني ويهتفون بحرارة وبأصوات متلؤها الحامسة .األغرب هتاف كانوا ينثنونأنني كنت سعي ًدا مثلهم .هتفوا أكرث من مرة ،ومع كل ٍ بجذوعهم معلنني الوالء والطاعة .بدت تلك طريقتهم يف الرتحيب يب .إنها لغة ال أعرفها ،لكن الواضح أنهم جميعا يعرفونها إلاّ ي ،ومع ذلك مل ِ أبد افقي كانا يشاركان الجمع حامستهم، امتعاضً ا أو ت ّرب ًما أو ضيقًا .حتى ُمر ّ أحسا بخفوت الهمة؛ رفعا أياديهام عاليا لتزداد حامسة الجموع أكرث وكلام ّ فأكرث .هتفوا معهم مبويت ،وابتسموا يف وجهي أكرث من مرة ،فابتسمت لهم، وتبادلت التحايا مع الجامهري. زعيم ،فيام بدا أن مكاينمل أكن وال مرة -فيام أعرفه عن نفيس -خطيبًا أو اً يل أن أقول شيئا .ليس مهام ماذا أقول ،املهم أن أقوله ،وأقوله يحتّم ع ّ حاال ،بعد أن خفتت تدريجيا حدة الهتافات ،وانسحبت شيئا فشيئا حامسة لتحل محلها العيون املرتقّبة واآلذان املصيخة. الصوتّ ، كنت عىل منصة عالية ،يف ساحة فسيحة يتضخم معها الصمت الراقد، يدي عاليا فارشأبّت األعناق انتظا ًرا ملا يبدو أنهافارتبكت أكرث ،ثم رفعت ّ 29 فصحت “ميوت الزعيم” ،قلتها ثالث ُ حركة معروفة لهم سلفا .انهمر عرقي، مرات بصوت مخنوق ،وقبضة يدي يف الهواء تهتز من الرجفة ال الحامسة. صاحوا ورايئ بحامس شديد ،هدرت جموعهم بالهتاف بعزم ما فيهم ،وهم تحتي باآلالف .قفزت ساعتها إىل ذهني كلامت صديقتي حني قالت يل كتفي مع لحيتي الكثيفة :لقد أصبحتمعلّقة مل ّا رأت شعري منسدلاً عىل ّ بت شبيهه شبيها باملسيح .أعجبني تعليقها ،وكنت أحس من قبل ذلك أنني ّ فعال ،هنا انطلق لساين وصحت ثانية يف الجموع :لو عاش الزعيم ،فكلكم الزعيم ،كلكم الزعيم ،كلكم الزعيم. ***** يقولون هامش الحريات يتسع أو يضيق .يقولون كذلك :عىل هامش األحداث أو عىل هامش املؤمتر ،ونعرف مام سلف “هامش الكتاب” أيضا. يتبدى الهامش إذن يف مساحات مختلفة ،مرة يظهر كحيز معنوي ،وأخرى كحدث الحق عىل أصل ،ويف الحالني فإن ما يجمعهام كون الهامش تب ّديا ملا يبقى بال دميومة. السرية األوىل ألي هامش تقول إنه ظهر بشكلٍ عارض ،قريبا من املنت (خذ هامش الكتاب دليال) ومل ّا استحسن الزخم املتنامي حول وجوده؛ تنوعت تبدياته ،وازدادت أكرث فأكرث إغاراته عىل جسد املنت ،ليكسب أرضا إضافية ت ُض ّم إىل جسده الهش اآلخذ يف التصلب والتنامي .لكن ككل معركة - مهام كانت خطتها امل ُحكمة -تظهر تفصيالت صغرية ،مل تؤخذ مسبقا يف الحسبان ،أو مل متر بخاطر أحد ،لتَقلب املعادلة عىل عقبيها :يتسع هامش 30 الحريات بعدها أو يضيق أكرث ،ما يحدث عىل هامش املؤمتر مييس كارثة أو ال جدوى منه ،املهم إن حالة التأقيت ال تفارق جسد الهامش ،إنها صنوه، ورفيقة وجوده .كام أنها تقود الهامش لحالة غري طبيعته األوىل ،إما بوعد التحول ملنت مغاير ،أو بفداحة الهزمية أمام املنت القا ّر .صحيح كذلك أن املنت ال تنتفي عنه متاما مامرسات الع ٙرضية وأالعيبها ،لكن املنت يبقى جس ًدا صلبًا بتعريف وجوده ،ومتى ما أصابته عوامل االنهيار والتحلل ،فإن ذلك ال يكون فقط لعارض يف ذاته ،بل ألن جيوش التأقيت كانت منذ البداية رفيقة الهامش ،تخطو معه ي ًدا بيد ،وتزحف به عىل جسد املنت. وإذا كان املنت هو صلب الواقع ،والهامش نذره الكامنة فيه بجيوش الالدميومة ،فأين موضع الهامش فيه إذن؟ والسؤال ليس عن مكان متعني، قدر ما أنه عن مكمن فاعليته وتأثريه .ولنئ كان الهامش يف بادئ وجوده متعينا بوجود متنه باعتباره امتدادا لهذا املنت برتتيب جديد ،فامذا لو قرر الهامش أن يختار لنفسه مكانا قص ًّيا عن املنت؟! ماذا لو قرر أن يتنكر لتاريخ والدته كعار يجب التخلص منه؟! حني يندفع الهامش بطاقة سيولته محاوال تجاوز منابت وجوده ،ومفارقة الواقع /املنت بنفيه؛ حني يختار الهامش هامشً ا الستنبات ذاته ،فإنه يف الحقيقة يقتل بيديه قوة تأثريه؛ إذ تظل نجاعته وقفا عىل ذلك الحبل الرسي الذي يربطه مبتنه ،فعىل أرض املنت يصبح الرصاع حارضا وممتلئا بواقعيته .األكرث كارثية إنه كلام انزاح الهامش بعيدا ،وازداد نأيًا كجزيرة منعزلة ومحجوبة ،كلام استغرق يف استعارات بديلة لواقع املنت الصلب ولواقع الرصاع نفسه .وهذه االستعارات ال تقدم شيئا ،ألنها ليست إال ص َو ًرا طوباوية يف الذهن عام يجب أن يكون عليه املنت وطبيعة الرصاع معه .لقد 31 صار الهامش ذاته مجموعة من التهوميات والخياالت املنفصلة عن واقعها التي يتحول بها لوجود هش وغري مكتمل ،ويف سبيل الحفاظ عىل وجوده االستعاري فإنه ينكفئ عىل نفسه ويتمحور حول ذاته .ومن ث ّم فإنه -أمام أي تهديد قد يطال هشاشته -يصبح أكرث عنفًا ،وحينها يرتد لصورة املنت الذي قام باألساس لخلخلة دعامئه. ***** أثناء عبورهام لرشيط السكك الحديدية الذي يفصل الحدود النهائية للمدينة عن عتبة قريتهام النائية و باقي القرى املجاورة ،قال أحدهام لصاحبه :هذا القطار اآليت من بعيد سيدهسنا ال مفر؛ فرسعته مقارنة بخطواتنا الضيقة تقول ذلك. بعد أن عرب فوق جثتيهام ،قال اآلخر لصاحبه ،مستعي ًدا صوت هرني ميشو: ما دام عىل هذه الدرجة من الرسعة ،فسيصل قبلنا حتام. 33 أن تنحاز لنفسك ضد اآلالف هبة شريف يف كتابهام “الهامشيون” يعرض فريد موتني وستيفانو هارين وجهة نظرهام عن “االضطراب” أو “الالنظام” الذي يجدانه متجس ًدا يف كل لحظة ويف كل مكان عندما يخرج الناس عن املألوف أو السائد :يف موسيقى الجاز أحيانًا ويف االرتجاالت املوسيقية التي يعتربها بعض الناس نشازًا ،أويف الخروج عىل النظام يف قاعات الدرس ،ويف رفض معارضة السلطة القامئة بنفس أداوتها؛ “االضطراب والالنظام متجسدان ببساطة يف كل ما هو ضد النموذج املعياري والنظام املتفق عليه من معظم الناس وتفرضه علينا السلطة ويفرضه املجتمع” .1 النظام والنموذج املعياري يعمالن عىل إخضاع الناس وتدجينهم عىل عكس االضطراب أو “الالنظام” اللذين يُعتربان -يف رأي فريد موتني وستيفانو هارين -الوسيلة الدامئة املتجددة ملحارصة وسائل اإلخضاع والتدجني .فحتى معارضة النظام تكون أحيانا معارضة مد ّجنة ،فهي معارضة لإلصالح ،يف 1. Stefano Harney and Fred حني أنه مستحيل “إصالح ما ال ميكن إصالحه” .2 Moten. The Undercommons. Fugitive Planning&Black 3 يل هذه األفكار كثريا وأنا أقرأ كتاب رشيف يونس “نداء الشعب” ألحت ع ّ Study. Minor Compositions. Wivenhoe. New York Port ،ثم وأنا أعيد قراءة رواية السرية الذاتية “منوذج طفولة” للكاتبة األملانية Watson. 2013. Page 131 – 132 كريستا فولف . 4يناقش الكتابان من وجهات نظر مختلفة ومن واقع 2. Stefano Harney and Fred Moten: The Undercommons. سياقات مختلفة ،كيف ميكن للناس أن تقرر -وفق منوذج معياري سيايس Page 6 أو مجتمعي مفروض عليها -أن تنحاز للسلطة ضد مصلحتها وضد نفسها: .3رشيف يونس .نداء الشعب .تاريخ نقدي لأليديولوجيا النارصية .دار يف أملانيا حيث انحازت الجامهري لنظام النازي وزعامة هتلر مدفوعني الرشوق .القاهرة 2012 بحب وتبجيلٍ غري مفهومني فقادوا البالد نحو الخراب ،ويف مرص حيث ظل ٍ .4كريستا فولف .منوذج طفولة. ترجمة هبة رشيف .دار رشقيات. املرصيون أوفياء لجامل عبد النارص ونظامه بل وظلوا يشعرون بالحنني القاهرة 1999 34 أليامه حتى بعد موته ،رغم أن عهده شهد عدم الوفاء بكل وعود االستقالل الوطني والعدالة االجتامعية والنهضة التي كان قد ألزم نفسه بها. وأتساءل :هل يكمن السبب يف براعة كذب ال ُنظم؟ أم أن األمر له عالقة بيشء يتخطى الواقع السيايس واملجتمعي بل ويتخطى منطق السياسة ترب عليها الناس نفسها؟ هل األمر له عالقة ب ُنظم السلوك والرتبية التي ىّ بحيث يجدون أنفسهم ينحازون دامئًا إىل السلطة ضد أنفسهم؟ تقول ح ّنة أرندت يف كتابها “أصول الشمولية” 5إن الحركات والنظم الشمولية تستند أولاً وأخ ًريا إىل حب وثقة الشعب يف النظام والزعيم الذي ميثله .والنموذج الشمويل الذي تراه ح ّنة أرندت مجس ًدا يف كل من الحكم النازي لهتلر والحكم الستاليني ،مل يكن له أن يتخطى األخطار الداخلية والخارجية والكثري من التوترات بني أعضاء النظام الحاكم إال استنا ًدا إىل ثقة الجامهري .6والجامهري املنساقة إىل الحركات الشمولية واملقتنعة بها - يف رأي ح ّنة أرندت -هي تلك املجموعات التي ال تجمعها مصالح مشرتكة وليست لها قناعات حزبية أو ليس لها انخراط كبري يف السياسة؛ أي أنها تلك املجموعات الكبرية من الناس التي مل يهتم بها أحد من األحزاب السياسية ومل يكرتث السياسيون كث ًريا مبخاطبتها اعتقا ًدا منهم أنهم جاهلون بأمور السياسة .ورغم ذلك ،فإن تلك الجامهري هي ما تشكّل الكتلة األكرب يف 5. Hannah Arendt: The Origins of Totalitarianism. New Edition املجتمع ،وهي من تتوجه لهم الحركات الشمولية والسلطوية يف خطابها with Added Preface. A Harvest Book. Hacourt Inc. Orlando الذي عادة ما يكون خطابًا حامس ًيا عاطف ًيا مليئًا بشعارات فضفاضة ال ميكن Austin New York San Diego London 1964 قياسها“ :الوطنية” أو “التحرر” أو “االستقالل”. 6. Hannah Arendt: The Origin تترصف النظم املستبدة إذن وفق “منوذج” معني ،شائع و ُمخترب من قبل of Totalitarianism. Page. 351 – 352 والناس من جانبها أثبتت أنه ميكن أن ُ وأثبت نجاحه يف إخضاع الناس، 35 يتكرر إخضاعها وفق هذا النموذج. يكتب رشيف يونس يف كتابه “نداء الشعب” أنه باسم “االستقالل الوطني” و“العدالة االجتامعية” و“التحرر” قام النظام النارصي باستاملة الجامهري فعل يف ذلك ،خاصة بعد حرب 1956وبعد تأميم قناة إىل جانبه ،ونجح اً السويس ثم اتخاذ إجراءات تضمن والء الطبقات التي كانت محرومة فسنت قوانني لتعيني خريجي وخريجات الجامعات واملعاهد من قبل؛ ُ ُ يف الحكومة ،وأصدرت قرارات لتحجيم أرباح التجار بتحديد أسعار السلع ،وقامت الدولة ببناء مساكن للطبقات املحدودة الدخل ،وأُنشئت الجمعيات التعاونية االستهالكية بهدف “إيجاد رادع يحول دون ارتفاع األسعار بسبب التالعب أو تحقيق ربح فاحش عىل حساب الشعب” .7 وظهرت برامج “النهضة” و“التصنيع من اإلبرة إىل الصاروخ” واملرشوعات القومية العمالقة مثل السد العايل؛ وقدم النظام النارصي نفسه بوصفه الضامنة الوحيدة الستمرار التقدم والنهضة باسم الشعب وملصلحة الشعب. ووفقًا لِح ّنة أرندت فإن الجامهري تتخىل عن الثقة يف النظم الشمولية املستبدة يف اللحظة التي تخذلها فيها تلك النظم ،وينكشف لها زيف الشعارات التي صدقتها يف البداية .يف تلك اللحظة -التي عادة ما تأيت متأخرة ج ًدا -تتحول الجامهري املحبة الواثقة يف زعيمها أو يف السلطة الحاكمة ،إىل مجموعة من املنتفعني املتحلّقني حول النظام ال أكرث .8ولهذا يظل السؤال قامئًا عن تلك املجموعات من البرش التي انجذبت لسحر .7رشيف يونس .نداء الشعب ص. الزعامة ولغواية التسلط باسم الشعب عندما تكشف زيف شعارات 402 - 401 السلطة؟ هل ينتهي لألبد انسياقهم وراء وهم الزعامة ووراء كذبة شعارات 8. Hannah Arendt. The Origins of Totalitarianism.Page 352 الوطنية واالستقرار التي تصدرها لهم السلطة؟ هل يبدأون مرحلة جديدة - 353 36 بوعي سيايس مختلف؟ ما حدث يف مرص بعد يناير 2011يؤكد أن الجامهري تفيق من الوهم لتدفع بنفسها وبكامل إرادتها إىل وهم آخر .يف يناير 2011حدث بعض االضطراب يف النظام املستقر منذ عقود ،وحاول بعض الناس الخروج عىل النموذج املفروض عليهم والتحرر منه .ولكن رغم الفرح العارم واإلحساس بالحرية شعر كثريون بالخوف من غياب الزعيم والقائد ،وارتعبوا من فكرة أنهم -ولفرتة وجيزة يف سياق التاريخ -ميكن أن يتحكموا بأنفسهم يف حياتهم بعي ًدا عن سلطة النظام الذي اختربوه وعاشوا وفق رشوطه سنني طويلة .وهكذا غ ّنى الناس وراء فرقة “كايرويك”“ ،مطلوب زعيم”، ليطالبوا بإعادة نفس النظام الذي ثاروا عليه؛ وإن كان تحت مسمى آخر. وظهرت صور عبد النارص يف ميدان التحرير ،وطلع علينا أحد أساتذة العلوم السياسية ليقول إن “مرص بحاجة إىل ديكتاتور مستنري” .9وحاول مثقفون وسياسيون إقناعنا بفكرة “املستبد العادل”. عاد الناس مرة أخرى باسم “الوطنية” و“الثورة” ليدخلوا بكامل إرادتهم يف نسي ٍج محكمٍ من الطاعة للسلطة مفضلني االنقياد السلس لنفس ه ْيكل النظام الذي ثاروا عليه؛ وإن اتخذ اسام آخر .مل يقبلوا فكرة أن النجاة قد تكون يف شجاعة املخاطرة وقبول مغامرة الخروج عىل املألوف. يبدو هنا أن فريد موتني وستيفانو هارين محقان متاما يف رأيهام أن الدميقراطية الحقيقية لن تتحقق أب ًدا يف يوم من األيام ،وأن ما يحدث 9. http://www.almasryalyoum. com/news/details/1011886 دامئا هو تحقق صورة زائفة من الدميقراطية .10ويبدو أن السبب يف سيادة 10. Fred Moten and Stefano الصورة الزائفة للدميقراطية تكمن يف “تربية” الجامهري أكرث مام تكمن يف Harney. The Undercommons. Page 19 النظام نفسه .ولهذا السبب تحديدا ،تربز رضورة تواجد “الهامشيني” بتعبري 37 فريد موتني وسيتفانو هارين يف كل مجتمع ،أي هؤالء الذين ليسوا معارضني للنظام فقط ،ولكنهم الذين يرفضون أيضا االنصياع للسائد واملجموع والنموذج امل ُتبع .الهامشيون هم الخارجون دامئا أبدا عىل املألوف ،هم الذين يدركون تل ّون األنظمة املستبدة تحت مسميات مختلفة ،وهم وحدهم القادرون عىل إدراك و ْهم “الدميقراطية الزائفة” التي تنخدع فيها األغلبية. يف رواية السرية الذاتية “منوذج طفولة” ترشح كريستا فولف كيف ميكن أن يرتىب اإلنسان عىل مناذج سلوكية سائدة يعتربها الجميع مثالية ،ولكنها يف واقع األمر مناذج تؤهله بامتياز ليصبح إنسانًا منساقًا لألنظمة املستبدة ومقتن ًعا بها ومصدقًا لوهم الدميقراطية الزائفة ،فيكرر دامئًا أب ًدا نفس انحيازاته ،فيخرج من طاعته لنظام مستبد إىل طاعة نظام مستبد آخر، ولكن تحت شكل ومس ّمى مختلفني. تشري كريستا فولف يف روايتها إىل الشكل املرتسخ يف طريقة تربية اإلنسان من البداية ومن أساس تكوينه ،أي منذ طفولته ،وترشح كيف يتح ّول الناس إىل أشخاص مستسلمة لتصبح “بالشكل الذي أصبح عليه األملان ذات يوم” 11بحيث انتخبوا الحزب النازي بحامس شديد ،وانساقوا لدعايته بدون أي إحساس بالذنب أو بأن هناك شيئًا ال يستقيم. تحيك الرواية قصة حياة أرسة أملانية (أرسة الطفلة نليل) يف مدين ٍة كانت تقع ذات يوم يف األرايض األملانية ثم أصبحت بعد انتهاء الحرب العاملية تقع داخل الحدود البولندية .يف هذه املدينة انتخب معظم السكان الحزب النازي عندما ترشح لالنتخابات يف بداية الثالثينيات من القرن املايض. .11كريستا فولف .منوذج طفولة، 1999 وبعد ظهور النتيجة باثني عرش يوما تم اعتقال نواب الشعب الشيوعيني ص218 . 38 املنتخبني .وص ّدق الناس بسهولة شديدة ما تم ترويجه يف وسائل اإلعالم عام يقوم به الشيوعيون من “تسميم شامل لألفكار” .وكان وزير الرايخ هرمان جورينج يؤكد أن لديه أدلة موجودة يف ”مئات األطنان من الورق” تؤكد “األفعال اإلرهابية للشيوعيني” .12 ولكن مل يسأل أحد عن تلك األدلة أبدا ،ومل يتشكك أحد يف أن الشيوعيني يقومون بالفعل “بأفعال إرهابية” .بل مل يحاول أحد مساءلة أية فرضيات أخرى تم الرتويج لها عرب سنوات الحكم النازي .وتغاىض الناس عن اعتقال الشيوعيني واليهود وإبادة األرسى يف املعتقالت ،وتعاملوا مع األمر فيام بعد كام لو كانوا “مل يكونوا يعلمون ما يحدث فعال”؛ إال أنهم يف واقع األمر كانوا يعرفون كل ما يحدث. يف الرواية تُص ّور كريستا فولف مشهد التقاء أحد املعتقلني الشيوعيني السابقني بأُرسة نليل بعد هزمية أملانيا وفتح املعتقالت وهروب العائالت األملانية من املناطق املهزومة .فقد تعجبت شارلوته يوردان ،أم الطفلة نليل ،أن هذا الرجل كان قد دخل املعتقل بسبب أنه شيوعي .وهنا ر ّد عليها بجملة مقتضبة ال تحمل اتها ًما ولكنها تحمل الكثري من االستغراب: “أين كنتم تعيشون ،كلكم؟” .13مل يتخيل املعتقل السابق أن كل هؤالء الناس مل يكونوا يدرون عن فظائع النظام شيئًا .فكل ما كان يحدث كان يتم الرتويج له والحديث عنه إعالم ًيا ويف خطب قادة النازي .ولكن الناس كانوا يفضّ لون االنضامم املريح إىل املجموع املطيع املتحمس للشعارات بدال من التحول إىل مجموعة قلقة من املتشككني املتسائلني تعيش عىل الهامش .12املرجع السابق .ص46 . وتتعرض للخطر. .13املرجع السابق .ص47 . وهكذا ت ُصور الرواية مثال كيف اختار األب ،برونو يوردان ،أن ينضم اىل 39 تنظيم العاصفة البحرية الريايض ،وهو تنظيم يسيطر عليه الحزب النازي. وكيف كان سعي ًدا ”سعادة من يشعر أنه يتفق مع الجميع يف الرأي .فليس ألي شخص أن يقف خارج األحداث .وبرونو يوردان إذا كان عليه “أن يختار بني هذا الشعور بعدم االرتياح وبني الرصاخ الصادر عن اآلالف والذي ينبعث من الراديو فإنه يختار ،كإنسان اجتامعي ،أن ينضم لآلالف ضد نفسه” .14 تحيك كريستا فولف عن طفولة نليل وكيف نشأت وتربّت وفق النموذج املعياري املثايل املتفق عليه يف مؤسسات املجتمع :األرسة واملدرسة ،وكيف تولّت أجهزة الدولة وإعالمها بعد ذلك باقي املهمة لتتحول نليل إىل واحدة من آالفُ ،مدج ّنة ومطيعة تهتف مع املاليني بحياة هتلر .فقد تعلمت نليل يف وقت مبكر ج ًدا من طفولتها “أن الحب والطاعة هام نفس اليشء” .15 ولكن الطاعة ليست دامئا فضيلة ،فالطاعة ميكن أن تقود اىل الكارثة .فخالل فرتة حكم النازي ،كان أدولف أيشامن رئيس قوات العاصفة وأهم مسئول شخصا مطي ًعا ً عن اعتقال اليهود ونقلهم اىل معسكرات اإلبادة يف أملانيا رصا حتى النهاية أنه ال لألوامر .وأثناء محاكمته بعد الحرب كان أيشامن م ًّ يرى نفسه مسئولاً عن أي جرائم ،فقد كان “مطي ًعا ألوامر قادته وقد ترىب عىل أن الطاعة فضيلة” .16 وكان عىل نليل أن تتعلم منوذ ًجا آخر للسلوك السائد املثايل :كبت املشاعر الحقيقية .تجاهد نليل أال تعرب عن خوفها وال عن إحساسها باألمل الجسدي، إنها تريد إثبات الشجاعة والحصول عىل الثناء .ولكن يثبت لها أحد .14املرجع السابق .ص51 . األقارب (العم هايرنيش) أن الشجاعة يشء آخر غري تح ّمل األمل .فيمسك .15املرجع السابق .ص24 . بإصبعها وميرره فوق نار الشمعة ومع ذلك تحاول نليل التح ّمل رغم أن .16املرجع السابق .ص244 . 40 درسا: عينيها تغر ْورقان بالدموع من شدة األمل .وهنا يلقّنها العم هايرنيش ً يل “الشجاعة يشء آخر .الشجاعة هي أن تقويل يل أنك تشعرين بالحنق ع ّ وأنني شخص كريه .رمبا تكونني حنونة ،ولكن الشجاعة يشء آخر” .17 ولهذا فلم تُوات األرسة الشجاعة أب ًدا ليك تعلن رفضها وعدم قبولها ألن تتعامل الحكومة األملانية مع العمة ييتا بطريقة “املوت اإلكلينيك” .فالعمة ييتا كانت تعاين من مرض عقيل .وكانت حكومة النازي قد طبقت “برنامج املوت اإلكلينييك” عىل املرىض املعاقني منذ فرباير وحتى خريف 1941حتى يحتفظ األملان بنقاء الجنس اآلري املثايل الذي ال يُو ّرث أبناءه أي طفرات أو أخطاء جينية .وقد راح ضحية هذا الربنامج ستة آالف شخص. وكان أفراد أُرسة نليل يعرفون أن موت العمة ييتا به يشء ال يستقيم، ولكنهم تح ّملوا أمل فقدان فرد من العائلة وكبت هذا األمل يف “شجاعة”. ولكن هل هذه هي الشجاعة؟! ويف املدرسة تخترب نليل قهر سلطة أخرى ترسخ منوذ ًجا سائ ًدا آخر لطاعة السلطة :سلطة املدرس ،األستاذ فارسينسيك. واألستاذ فارسينسيك حريص عىل فرض طاعة السلطة السياسية عىل تلميذاته حتى يف قاعة الدرس ،ويعمل كل جهده أن يجعل التلميذات ملتزمات بالقيم “األملانية األصيلة”؛ فهو يرص عىل أن تظل تلميذاته الصغريات رافعات أيديهن بالتحية األملانية التقليدية طوال فرتة إذاعة األغنيات الوطنية ،مهام طالت تلك الفرتة ،ومن ال تنجح يف ذلك ألن عضالت .18املرجع السابق .ص109 . ذراعها ضعيفة -مثل نليل -ت ُعامل باستهزاء. .19املرجع السابق .ص374 . واألستاذ فارسينسيك “يريد أن تتعلم تلميذاته الصغريات القدرة عىل .20رشيف يونس .نداء الشعب .ص. 469 - 468 التحمل كام يجب أن تكون الفتيات األملانيات ،فكان يريد أن يعرف يوميًا
Enter the password to open this PDF file:
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-