: « A Complete Unknown » لغز الموسيقا الشعبية يزداد تعقيدًا عبدالله آل هيازع الأسمري يُعد ّ بوب ديلان واحدًا من أكثر الموسيقيين غموضًا في التاريخ الحديث، ما جعله محل ّ اهتمام ٍ دائم ٍ لصُنّاع الأفلام، الذين يسعون إلى التقاط لمحة عن عالمه المعقّد والمثير، ليعيدوا سردها من زوايا مختلفة، سواء ً عبر أفلام روائية مثل « I'm Not There » لتود هينز، الذي قدّم ستة ممثلين مختلفين لتجسيد ديلان في مراحل حياته المختلفة، أو عبر وثائقيات مثل « Rolling Thunder Revue » لمارتن سكورسيزي، الذي تناول جولته الموسيقية الأسطورية في منت صف السبعينيات بأسلوب يجمع بين الحقيقة والخيال. وآخر هذه الأعمال هو فِلمنا لهذا اليوم « A Complete Unknown » ، الذي وصل متأخرً ا إلى صالات السينما السعودية بعد عرضه العالمي. وهو رؤية جديدة للمخرج جيمس مانقولد، الذي يبرع في تقديم أفلام السيرة الذاتية بأسلوب ٍ متو ازن، يجمع بين الدراما العاطفية والإيقاع المشوّ ق، بجانب قدرته على إبراز الجانب الإنساني لشخصياته، كما فعل في « Walk the Line » ، حيث قدّم رحلة نفسية تعكس الصراعات العاطفية والتطور الشخصي لنجم الموسيقا الآخر جوني كاش. وحتى بعيدًا عن عالم الموسيقا، تبرز قدرته في نقل التوتّر والصراعات الداخلية دون أن تطغى على متعة وتشويق مشاهد حلبة سباق السيارات في فِلم « Ford v Ferrari .» وهذا ما يجعل أفلامه أكثر من مجرد توثيق لسير ذاتية، بل بقدر ما هي تجارب سينمائية غنية ومؤثرة. زيمرمان وديلان يبدأ الفِلم بتتبع « بوب ديلان » عام 196 1 ، وتحديدًا في لحظة فارقة من حياته؛ عندما يدخل إلى غرفة في المشفى لزيارة أحد أهم رموز موسيقا الفولك، « وودي قارثي .» لكنه يلتقي هناك أيضًا بـ « بيت سيقر » (إدوارد نورتن). ومن هذا اللقاء الثلاثي، تنطلق رحلة « ديلان » في نيويورك، بعد أن غادر مينيسوتا، ليجد نفسه في وسط المشهد الموسيقي الشعبي المتفجر. ويركز مانقولد على هذه الفترة تحديدًا، كونها المرحلة التي صاغت هوية « ديلان » ، بشعره العبثي، ونظارته السوداء القاتمة، وأسلوبه الجامح. وللتعمّق في هذا الظلام الذي يغطي عينيه، يعود بنا الفِلم إلى « زيمرمان » ، الاسم الأصلي لـ « بو ب » ، الذي تخلّى عنه ليصبح « ديلان » ، عبر مشاهد متفرقة وسريعة، فنشاهد تعاطيه مع أحداث كبرى مثل أزمة الصواريخ الكوبية ومناهضة العنصرية، وكأننا نشهد رمزً ا ثقافيًّا في طور التشكّل، أو بالأحرى في طور الانفجار! ومن هنا برزت براعة تيموثي شالاميه في العزف على أوتار ر وح « ديلان » ، حيث جسّدها بمهارة دون السعي إلى تقليد حركاته أو صوته، محافظًا على مساحة من الإبداع والتخيّل. كما أن مانقولد أراد ألا ّ يكون الفِلم مجرد محاكاة جامدة لشخصية ديلان، بل إعادة خلق لها في سياق سينمائي جديد. ولكن، في المقابل، لا يتعامل الفِلم مع هذا ا لرمز كشخصية يمكن تفكيكها بسهولة، بل يتركه في حالة من الفوضى الإبداعية، التي تحاول أن تعكس طبيعة حياته بسطحية ودون رؤية واضحة. وظل يركز في هذه الفترة على سؤال تكرّ ر كثيرً ا من أشخاص مختلفين حتى أصبح مملاًّ : من أين يستمد هذا الشاب ذو العشرين عامًا إلهامه؟ حتى إن وصولنا إلى الحدث الأهم، في عام 1963 ، حين غنّى « ديلان » في مهرجان نيوبورت الشعبي لأول مرة، بدا وكأنه اعتراف رسمي بأنه ضمن الأفضل. : 1965 مجهول على مسرح نيوبورت مع نظرة الفخر والإعجاب من « بيت سيقر » ، ينهي « ديلان » فقرته في نيوبورت بعد « جوني كاش » مباشرة، ل يحظى بالحفاوة نفسها التي حظي بها « جوني .» وبذلك ينتهي النصف الأول من الفِلم. ونبدأ بالاقتراب أكثر من شخصية « ديلان » التي نعرفها جيّدًا؛ ذلك الشاب البوهيمي ذو العلاقات المتعددة، والموسيقي الجامح الذي لم يعد ينصاع لرغبة الجمهور في سماع « Blowin' in the Wind » ، و أصبح روحًا هائمة داخل خمسة وأربعين كيلوقرامًا، كما وصف نفسه ساخرً ا في مشهد لقائه مع « بوب نيوورث .» هذا اللقاء شكّل نقطة تحوّ ل فارقة، حيث قاد إلى تشكيل فرقة قلبت قواعد موسيقا الفولك التقليدية. ومن خلال هذه المرحلة المفصلية من حياته، نشهد تخلّصه تدريجيًّا من إرث الفولك التقليدي، الذي كان يحد ُّ من إمكانياته أو من قدرته على خلق هويته الموسيقية الخاصة، التي لخّصها عند سؤاله عن نوع الموسيقا التي يعزفها، ليجيب بكل بساطة: « كل شيء .» ومن هذه الروح المتمردة، خرج بأهم ألبوماته على الإطلاق « Highway 61 Revisited » ، حيث يعز ف في هذا الألبوم على قيتار ٍ كهربائي وصافرة بسيطة ابتاعها من الشارع. ولكن قبل إصدار الألبوم رسميًّا في الأسواق، يأتي الحدث المفصلي الآخر، مهرجان نيوبورت السادس، الذي وصفه « بيت سيقر » بطريقة شاعرية، قائلاً : « كان الموسيقيون يسعون لجعل الموسيقا التقليدية أكثر ا نتشارً ا بين الجماهير، لكن بخطوات بطيئة ومتأنية، حتى جاء ديلان كالعاصفة، فخطف الأنظار بسرعة وأعاد تشكيل المشهد بالكامل .» ولكن الذي لم يتوقعه « سيقر » ، أن العاصفة التي سيُحدثها « ديلان » هذه المرة لن تكون مجرد وسيلة لجذب الجماهير، بل ستتوجه نحو التقاليد التي كان « سيقر » نفسه ملتزمًا بها. حيث اعتلى « ديلان » المسرح وسط ضربات فؤوس قوية تمهّد لنا عملا ً مشابهًا لها، ولكن بقيتار كهربائي يضرب على المزاج العام، ليبدأ ديلان ضربته الأولى بأغنية « Maggie's Farm » ، وسط سخط كبير من الجمهور، ثم اختتمها بـ « Like a Rolling Stone » ، ا لتي يحكي فيها قصة درامية عن رجل ثري متغطرس سقط من برجه العاجي ليواجه معاناة لم يعتدها. وكأنه يُسقِط تلك القصة على نفسه، حيث صعد المسرح وسط مطالبات حثيثة، وغادره وسط فوضى صنعها بنفسه، محوّ لا ً إياها إلى ثورة موسيقية ولون جديد، هو الفولك - روك. ختامًا يُظهر جيمس مانقولد اهتمامًا كبيرً ا بسرد قصص الموسيقيين، كما فعل سابقًا مع جوني كاش، وهذه المرة مع بوب ديلان. لكن الفارق هنا أن ديلان أكثر غموضًا وتعقيدًا، ما جعل مانقولد يتعامل معه بحذر، دون أن يحاول رسم خط ً تفكيك أسراره، بل تركه رمزً ا عصيًّا على التفسير، مفضّلا وط عريضة لحياته بدلا ً من الغوص في تفاصيلها. فمن بعيد، يبدو الفِلم ممتعًا ومتماسكًا، لكن عند الاقتراب منه أكثر، يظهر افتقاره إلى بصمة خاصة ورؤية مميزة لهذا النجم الذي « يدنو من الأرض » ، كما وصفه سكورسيزي في وثائقيه الذي تناول فيه قصة ديلان.