مجموعة نصوص ومحاضرة أدائية أنثولوجي الأزمات الدائمة | نص المحاضرة الأدائية محمد عبدالكريم المكان آية نبيه سر الأصابع الأربعة يوسف رخا تثبيت” الدولة “ محمود عاطف أن تنحاز لنفسك ضد الآلاف هبة شريف محاولة تخيّل الهروب محمد ربيع 57 9 15 21 33 47 5 ،” The Undercommons: Fugitive Planning & Black Study تحت عنوان “ أصدر الأكاديميان ستيفانو هارني وفريد موتين عام 2٠13 مجموعة نصوص تتناول الفكر الاجتماعي والسياسي المعاصر، في ضوء نظريات وممارسات التقليد الأفرو-أمريكي الراديكالي. ابتدع الكاتبان مصطلح “الأندركومون” ودعا في كتابهما إلى تبني ذلك الموقف المعني بالحق في الرفض: رفض الحلول المطروحة باعتبارها الخيارات الوحيدة المتاحة للفرد أو للمجتمع، ورفض ما يقدمه النظام كإقرار منه بالظلم الذي أوقعه على رعاياه الخاسرين، كما “أَنكر أن أي شيء كان مكسورًاا، أننا مقهورون وعن استحقاق”. بدلا ًا من ذلك، يدعو الكاتبان إلى إسقاط النظام الذي ولّد الظلم وجعل منه وضعًاا منطقيًاا. وكذلك في المقابل، لا يسعى الفرد “الأندركومون” إلى طرح حلول أو بدائل، لأن تبنيه لموقف “الأندركومون” يقتضي الانشقاق عن المواقف السائدة وتبني اللاموقف. ومن موقعه على حدود المجتمع المهذب، وبعيدًاا عن ضوابطه، يسعى لدراسة الوضع، ليس بهدف إنتاج المعرفة، ولكن بغرض الإعداد لما سيأتي لاحقًاا. فيصبح بمثابة المشاهد الذي يدرس ويرفض: يرفض الخيارات والسلطة حيث “لا سلطة في البرية”، ويرفض الاستقرار، ويمتنع عن طرح بدائل لأنه ببساطة لا يعرفها بعد، وذلك “لأن ما نريده بعد سقوط النظام سيكون حتما ًا مختلفًاا عما نعتقد أننا كنا نريده قبل إسقاطه.” نطرح “الهامشيّون” كمصطلح ٍ نظير لـ“الأندركومون” في اللغة العربية، للتأكيد على أنه موقف مختار٬ ولتفنيد أي إيحاء باتخاذ موقع الضحية. وبالرغم من أننا مهمشون، نختار أن نكون هامشيّين في سياق النصوص التي تحويها هذه المطبوعة. الهامشيّون 6 أجاب ستة مبدعين الدعوة لتبني الموقف الهامشي والانطلاق منه لتأمل الشأن المصري العام بعد 25 يناير في ممارسات نصية إبداعية، متنوعة ما بين البحثي والتخييلي والفلسفي والسيري. وأخيرًاا، في ظل تضاؤل الخيارات وحدّتها التي طالما وجّهت الحراك السياسي المصري منذ 25 يناير، ندعوكم ولو بشكل مؤقت، أثناء مطالعة النصوص التي بين أيديكم لتبني الموقف الهامشي وتأمل مطلب إسقاط النظام، الذي برز في يناير، وإدراك معناه وفقًاا للمفهوم الذي ورد في كتاب “الأندركومونز”، لعلنا نستدعيه يومًاا ما بوعي مغاير. دينا الديب 9 مدينة 1 من أين لي بالاتزان؟ كل ما حولي مختل. توقفت ُ مؤخرًاا عن مغادرة المنزل في النهار تجنبًاا لوضوح الرؤية، أمّا عن الليل فصرت أقضيه في الإنصات إلى مواء القطط المجتمعة أمام البوابة. نداء ضائع خلف أصوات السيارات الأخيرة لا يهتم أحد لرثائه، كأن الكل مدرك أن نهاية ًا ما توشك أن تحدث سيتوقف معها كل نداء على أي حال، سنفقد حماسنا لأن نقول شيئًاا في المضارع، ولن نجرؤ أن نقول: شيء ما سوف يكون. صحراء مدينة 1 للوصول إلى هنا أخترق ُ جموعًاا تهتف بالسواد، بينما أتنفس هواء ًا لا يخصني. ولأني أصل ليلاًا، يكون علي ّ تخيل هياكل الأحياء المائية التي يفترض أنها تحيطني، حيث كانت تعيش يومًاا قبل أن قاع المحيط. أحس ّ بمرور الثعالب من حولي ويمكنني أن أرى منها ّ يجف “سيلويت”، أقرب لقط ٍّ كبير في حجمها وأكثر جرأة في إيقاعها. أستلقي تحت السماء نفسها التي تركتها هناك، مع فارق وحيد: نجوم ُ هنا لا تدخل في منافسة مع أضواء شوارع المدينة. أنام، فأحلم بجموع تهتف بالسواد. مطار أحترس ُ أثناء السير، آخذ حقيبتي ونفسي إلى المطار. مبدئيًاا، أنا وخريطة رحلتي واحد. المكان آية نبيه 1٠ مدينة 2 ألف ليلة وليلة ويوم طويل وتسبقني حقيبتي إلى الفندق، ويقيمون مطاعم الساحة ويرفعونها يوميًاا، ويصطادون زجاجات المياه الغازية بصبر، ويفترضون أصولي اللاتينية، ويقابلني عدد هائل من اللافتات، ويجتاح البرتقال وأعوانه الأشجار على طريقة “التايم لابس”، وأُنصت إلى ابتكار ٍ غير مقصود ٍ للّغة، وأكون في حفل لا أعرف فيه أحدًاا، ويسقط أول مطر علي ّ ليلا ًا في محطة قطار، وتمر ّ عشر ساعات في قطار لم أفسّ ها بعد، وتدق ّ السابعة صباحًاا على الشاطئ. شاطئ مدينة 2 المنطقة الحرة، ميناء الصيد، ممنوع التقاط الصور ورمي الأزبال والصيد. وماذا عن الغرق؟ أغرق في كل ما أفعل، وكما يحدث في النوم والمشي والكلام والسكوت أغرق في أسماك فضية صغيرة جاءت في رحلتها الأخيرة مع موجة إلى الشاطئ ولم تعد إلى البحر، انتهت حياتها عند صخرة حُفرت على سطحها قبور ٌ تناسب أحجامها، كأنها قوالب تكوّنت خصيصًا ا لكل منها مع تكوّن الصخرة. الأسماك الأخرى التي عادت مع تلك الموجة لم تدرك على الأرجح أنها فقدت أفرادًاا من مجموعتها. الأسماك متشابهة وعددها الكبير لا يسمح لأفرادها بملاحظة اختفاء البعض، وأفترض أن الحياة تحت الماء صعبة وكل َّ سمكة منشغلة بحالها. أتمشى على الشاطئ لأجمع بعض الأصداف وأضعها أمام الصخرة، هكذا تُزار قبور الشواطئ، لكني أغرق في الطريق إليها. 11 مطار لأجل راحتك سننتقل إلى صالة صامتة، داخل بناية ضخمة تنتمي نظريًاا إلى بلد ما، لكنها لم تتلوث به. مجتمع المظاهر المعلبة غائب عن هنا، يحل محله مجتمع يتكوّن ويتفكك عدة مرات في اليوم الواحد. أنفصل عن كتلة الحياة اليومية في مدينتي، وأقضي ساعة تقريبًاا في انتظار الصعود إلى الطائرة بعد التفتيش الأخير. ساعة، تفصل الوجود على الأرض عن الصعود إلى السماء، هي الأكثر سلامًاا في ّ الرحلة. وإذا حمّلت كلمة رحلة معنى أكبر رغم خلافي مع المجاز، تظل الجملة صحيحة. أختار كرسيًاا في الكافيه القريب من بوابتي التالية، وأحاول ألا أفكر فيما تركته ورائي أو ما ينتظرني. يستأذن أحدهم لمشاركة الطاولة الصغيرة معي لازدحام المكان وينشغل مع هاتفه المحمول، بينما أراجع طقس المدينة التي أتجه إليها. مدينة 3 نحن سعداء بعودتك وغير مهتمين على الإطلاق. هكذا تستقبلك هذه المدينة. كل شيء كما تركته في الزيارة الأخيرة، تقريبًاا، غير أن الحصار ظهرت آثاره في هاشتاج المجد على شاشات المطار، وفي سوبر ماركت أتوقف عنده حيث استُبدلت منتجات ألبان دول الحصار بمنتجات الدول الحليفة التي لا يعرف أغلب سكان المدينة لغاتها، لذا وُضعت لافتة بـ “أبرز المصطلحات الغذائية” باللغة الأجنبية ومقابلها، مثل: حليب، بيض، لبن، كامل الدسم، قليل الدسم. أيضًا ا، السيارة التي اكتشفنا بها المدينة لم تعد هنا كصاحبها، سأخبره أن ذلك أفضل جدًاا، على الأقل لن أضطر ّ لسماع 12 المزيد من موسيقى التكنو على الطريق. أبتلع التغييرات بلا صعوبة، وأعاود احتلال شقتي، وقبل أن أستعيد الحياة التي تركتها هنا أسارع بفتح الحقيبة لأُخرج سيلفيا بلاث، لا أريدها أن تختنق مرة أخرى. مطار مهارات جديدة أكتسبها؛ فهذه المرة أنجح في حزم كل أغراضي في حقيية واحدة بدلا ًا من اثنتين. الآن لدي ّ حقيبة واحدة، ثقيلة جدًاا ويستحيل حملها. مدينة 1 لسبب مجهول انقطعت دعوات حرق ها المدينة. وللأسف، أو لحسن الحظ لا أدري، لا يبدو أن نهاية ًا ما توشك أن تحدث. الكل منهمك في البحث عن حلول لتأخيرها، والترويج لسيْل من الاختراعات الموجهة لخدمة إنسان المدينة المعاصر: تكييف متنقل، شطّافة محمولة، كعب بلاستيكي لحماية الحذاء أثناء القيادة، صوبات بشرية زجاجية مكيفة ومعقمة وعازلة للصوت لمحبي المشي في المدن كَحل ٍّ فعال للقضاء الوهمي على التحرش اللفظي والجسدي وانتهاك الخصوصية والضوضاء والتراب ومساعدة المواطن على النمو في بيئة صحية والحفاظ علي سلامته العقلية. تطورات هائلة. 13 لا يمكن تحديد موقعك حل مقترح ّ سأحتفظ بالمدينة الواسعة في رأسي، وقبل العودة بفترة مناسبة أجهز ّ قدمي على تحمل الجوع للمشي الطويل. الخريطة التي معي ستنقذني إن فشلت في ذلك. سأعتبر باب منزلنا مثلا ًا هو باب الفندق، وأخرج منه إلى اتجاهات اعتدتها هنا (ولتتحرك البنايات قليلا إلى أن أمرّ، معرفتي بالطريق تضمن لي تعاونه) هكذا لا تشغلني العودة إلى مدينتي الضيقة، كما أني سأكتشف طرقًاا جديدة لأماكن لا يهمني إن لم أصل إليها. 15 إشارة يستعملها أعضاء طائفة باطنية للتعرف بعضهم إلى بعض، وإنهما - الطائفة وإشارتها - متّصلتان بآخِ ر تجليات ما يسمى بالإسلام قبل انقراض المنظومة. وقع الانقراض تدريجيًاا قرب نهاية ألفينيات التقويم السابق كما هو معروف، لكن ّ الحروب والمجاعات التي سبقته لم تُبق من آثار هؤلاء الشباب على كثرتهم إلا أحفادًاا متفرقين يجهلون كل شيء عن أجدادهم، لا يعرفون من عقائد وسلوكيات أولئك الأجداد إلا أسماءها، والأهم أنهم لا يعرفون يقينًاا إن كانوا أحفادهم فعلاًا . إذن - قيل - هذه الإشارة قد تكون هي الحاوية الوحيدة الباقية للمنظومة العقدية والسلوكية المسماة الإسلام، وإن لم يكن ذلك في حد ذاته ذا جدوى؛ حيث أن جهلنا بمدلول الإشارة سيُبقي محتواها خفيًاا، ومن ثم لا يمكن أن تفيدنا في معرفة المزيد عن تلك المنظومة أو تفاصيل الظروف المحيطة بانقراضها. كان انتشار منظر الأصابع الأربعة لليد اليمنى مرفوعة ًا ومفرودة ًا - والإبهام مثني ّ - في التجمعات الافتراضية - بالذات منها المتصل بالدفع الشعبي واستعادة التحركات - لفَت نظر أحد الشيوخ، ثم قرينه الذي شهدها وجهًاا لوجه في إحدى ساحات المتعة. لقد اتفقا على أن مستخدمي الإشارة على اختلاف أوضاعهم يَبدون متحفزين وحزانى. وباستجواب عينة من هؤلاء المستخدمين تبين ّ أن هذا ما يشعرون به بالفعل، إلا أنهم، وبلا ألاعيب، لا يعرفون ماذا تعني الإشارة ولا ما يدفعهم إلى استخدامها. هكذا بدأت القصة مع مثقفي البرج ْ الذين استَجوبوا العينة. لكن لأول مرة، عبر حديث الشيخ وقرينه، اتخذَت ملاحظة عابرة عن ظاهرة لا تبدو ذات جدوى ملامح َ سؤال ثقيل يسعى الشباب إلى الإجابة عليه وكأنهم جميعا ًا يعانون حمله. أصبح السؤال، كما كان يقال في العصور السحيقة، قضية عامة. الشيوخ أنفسهم انشغلوا بالأمر سر الأصابع الأربعة يوسف رخا 16 كما لم ينشغلوا بشيء في الذاكرة الحاضرة. وبدأت جهات مختلفة - إما سعيًاا إلى إرضائهم والاستفادة منهم أو بحثًاا عن أمجاد موازية - تجنّد الفنانين والمقاتلين العاملين لحساب أنفسهم، إلى أن عاد الأمر إلى البرج فتبناه ًا المثقفون رسميًاا، وصدرت إيماءات بإحضار المعلومات والمساهمة تلبية لطلب شيوخ العالم. هكذا استُدعي مصارعو الأرشيف في البداية، وهكذا انتقل الموضوع من حيز التخمين واللامبالاة إلى حيز البحث والدقة. نعم. في البداية قيل إن الإشارة هي إحدى إيماءات ميليشيا المثقفين العاملة لدى كارتيلات الكهرباء في القرن الماضي، والمعروفين بالليزر لاستخدامهم رشاشات تشبه ذلك النوع من الطاقة الضوئية. قيل أيضًا ا إن أصلها يعود إلى علامة النصر: حرف V وقد تضاعف ليصبح W؛ وكما أن V في اللسان هو أول حروف كلمة نصر Victory فـ W هو أول حروف كلمة حرب War. أشار المصارع المسئول عن هذه الأطروحة إلى أنه أيضًا ا نصر مزدوج أو هكذا كان يفكر فيه بعض مستخدمي الإشارة بهدف التبرك أو الإحماء أو غير ذلك، وأضاف إن استخدامها لم يكن حكرًاا على هؤلاء الليزر ولا اقتصر على معنى واحد في أي مرحلة من مراحل التاريخ. لكن ّ ذِكْر َ الليزر في حد ذاته، بين المثقفين والمصارعين، بات مناسبة لاستدعاء حكاياتهم وأساطيرهم داخل البرج ثم عبر قنواته المفتوحة لدى الشباب عامة. ومضت شهور واستحضار الليزر أمر يوْمي ومحبب بكل ما فيه من تفاصيل: كيف كانت دورياتهم ترش ّ الضحية بمُركّب سحري قادر على أن يشل ّ دون أن يؤدي إلى الاختناق، بالذات؛ كان هذا المركّب - وتلك عبقرية المستحضرات الكيميائية طوال تلك الفترة - لا يُفقِد الضحية قدرتها على الشعور بالوجع. وكان الليزر ما إن يرشّ وا أحدهم فوق إحدى الجزر المرورية حتى يسلّطوا عليه العدسات 17 المقربة والمكبرة ليتمكن الجميع من رؤية ما يحصل معه على الشاشات العامة، ثم يهبطوا على الجسد المشلول بأدوات الحرق والجرح والهري الشفافة ليمثّلوا على سطحه إحدى القصص الملحمية المعروفة، إما صامتة أو مع حوار على خلفية موسيقية كما هو معتاد: قصة غزو الفضاء، قصة حروب الأمم، قصة ارتفاع الحرارة، قصة الفطر النووي. يكون التمثيل على سطح الجسد مباشرة وقد اقتربت العدسة من المساحة المقصودة بحيث لا يُرى سواها، وعادة ما يُستفاد من الوجه أيضاًا: الأنف، العينين، الدماغ؛ على أن ّ تقييم الأداء ليس فقط عبر تمَ َثُّل القصة بصورة مقنعة ومؤثرة إضافة إلى جمال الصورة المتحركة وإنما أيضًا ا بحجم الوجع والأذى الذي يستطيع المتفرج تقديره عبر المشاهدة بخبرته وإدراكه وحسه المسحي؛ فالعرض ًا الناجح هو ذلك الذي يوجع إلى حد يفوق التصور ملحقًاا بالضحية أذى قاتلا وهو يحافظ في الوقت نفسه على كمال وفعالية التكوين من جانب المحتوى والجماليات. فرغم فوات كل هذه السنين على آخر إتشنج كما كانت تلك العروض تسمى، نسبة إلى عملية الحفر في العظم التي تدور حولها - ورغم أن أحدًاا من الموجودين الآن مهما بلغ من العمر لا يمكن أن يكون حضر أحد هذه الإتشنجات أو شهد أحد أعضاء الليزر وجها ًا لوجه - لم يكف استحضار الشباب لأولئك المثقفين المرعبين بأجسادهم الضخمة الخالية من الشعر وملابسهم الشفافة وحركاتهم الخفية. ثبت أن الليزر كانوا يوجهون الأصابع الأربعة إلى العدسات قبل وبعد كل إتشنج على سبيل تحية الجمهور بالفعل. ومن ثم انطلقت مجموعة موازية من البحوث والاستقصاءات حول علاقة الليزر بالمنظومة سالفة الذكر لم تُفض ِ إلى شيء. وتعددت التكهّنات حتى تمكن أحد مصارعي الأرشيف من فك شفرة 18 مخزون نصوص متعلقة بالمنشأ التاريخي للإشارة مصدره أحد أهم مرتكزات أول فضاء افتراضي شامل، ذلك المعروف في اللسان بكلمة Internet وأحيانًاا ما كان يسمى الشبكة العنكبوتية. كانت النصوص مكتوبة باللسان كما كانت مكتوبة بكلام المكان المحلي وكانت تعود إلى زمن الظهور الأول للإشارة قبل وبعد الواقعة الأم. الموضوع معقد والمقاتلون كثيرون؛ فبمجرد ما فك ذلك المصارع الشفرة وتأسست حاوية النصوص أخذت تعديلات زملائه تتوالى عليها وبدأت وجهات النظر والروايات المنبثقة عنها تتعدد وتتنوع، بالذات حين جُلِبت حاويات نصوص أخرى ادُّعي أنها متعلقة بالحاوية الأولى أو متداخلة معها. المفارق أن شيئًاا من كل ذلك لم يضف أي معلومة جديدة إلى معرفتنا بالمنظومة أو المثقفين، ولم يكن له تأثير يذكر على الأرشيف، غير أنه شفى غليل الشيوخ وأرضى فضول الشباب. والمتفق عليه في الحكاية يمكن اختصاره إلى خطوط عريضة أولها أنه ظهر وسط الدنيا الكبيرة حيث يعيش شباب عادي دنيا أخرى صغيرة أقامتها مجموعة من معتنقي منظومة الإسلام تلك واعتبرتها الدنيا الأفضل أو - بتعبير سحيق آخر - المدينة الفاضلة. وليس واضحًاا إن كان بقية شباب هذه اللحظة هم من غير معتنقي المنظومة، فقد يكون مقيمو الدنيا الصغيرة هؤلاء اعتنقوا تنويعة باطنية أو تفريعة دفع شعبي من داخل منظومة حاصلة بالفعل. الأكيد أنهم أقاموا دنياهم على شكل مربع وسط قسْ م نشيط من الدنيا وجعلوا لها أربعة أعمدة افتراضية توازي الأسوار المادية التي اصطنعوها ضد إرادة الشيوخ والشباب على حد سواء: إن الدنيا الكبيرة خطأ؛ إن الكون كله باستثناء تلك الفقاعات التي تتبع منظومتهم خطأ؛ إن الخطأ إما أن يصحح أو يُحارب بهدف إبادته؛ إن الدنيا الكبيرة ترفض أن تصحح وبالتالي 19 ضروري أن تباد. لذلك فإن أولئك الذين أقاموا الدنيا الصغيرة كانوا يرون بقية الشباب أعداء يستحقون الموت، وكانوا يمعنون في كس قوانين الأذى المعمول بها في الدنيا الكبيرة والكون وممارسة ما يعتبره الشباب آثامًاا بحجة أن منظومتهم تحض عليه. لكن الأهم أنهم أخذوا يسعون إلى هدم الدنيا الكبيرة ما لم يتمكنوا ولن يتمكنوا من السيطرة عليها، ليس فقط بهدف جعلها مثل دنياهم - حيث السلوك والعقيدة ينطويان على درجات غير ضرورية من الأذى ويمنعان فعاليات حلوة كثيرة - ولكن أيضًا ا بهدف الانتقام من الشباب وتطويق الكون. لذلك كان الرأي أن شباب الدنيا الصغيرة هؤلاء يجب أن يُدمَجوا في الدنيا الكبيرة فنيًاا إن لم يكن بالمصارعة. لقد جرّب المصارعون والمتطوعون من مختلف العاملين لدى الشيوخ أن يتحدثوا إلى أصحاب الأربعة - كما صاروا يسمون - بلا فائدة. ناقشوهم وجادلوهم. قدّموا إليهم تنازلات. لكن أصحاب الأربعة ظلوا على عنادهم وقناعتهم، وكان أهم ما يصرون عليه الحفاظ على دنياهم الصغيرة وحق إيذاء الشباب المحيط. هكذا وبعد شهور من الخطر والوجع وشكوى الشباب المحيطين والأبعد ما كان من شيوخ الدنيا الكبيرة إلا أن أوفدوا فريق مثقفين بأدواتهم حوّطوا المربع المنطوي على الدنيا الصغيرة فهدّوا حوائطه وهاجموا حرّاسه وأمروا شبابه أن يغادروا وينمدجوا على الفور. وعندما أبدى أصحاب الأربعة استعدادًاا للمقاومة وأشهروا أدواتهم في وجه المثقفين - والخلاف قائم حول ما إذا كان المثقفون الموفدون تصرفوا بمباركة الشيوخ والشباب أو من تلقاء أنفسهم - حوّلوا المربع إلى بِركة دم ظلت بقايا أصحاب الأربعة عائمة فيه أيامًاا بينما الأوضاع تتحجر. لقرون بعد ذلك، فيما توالت الخطوب واندمجت الدنيا في الكون وانقرضت المنظومة المسماة الإسلام، ظل الباقون 2٠ من أصحاب الأربعة والمتعاطفون معهم يرفعون أصابع أيديهم اليمنى ويفردونها والإبهام مثني تذكيرًاا بالدنيا الصغيرة التي كانت وشبابها الذي تحول إلى بقايا عائمة في الدم. لقد كانت أحد تلك الألغاز في تاريخ الشباب: إنهم علامة هزيمة وانقراض، لكنها تستخدم تصميما ًا على البقاء والنصر. كان مثقفو البرج أول من اضطلع بالأمر، استجابة لتساؤلات ذلك الشيخ وقرينه. لكنهم في غياب المعلومات ظنوا الإشارة أضحوكة أو حالة هوس جماعي. ولم تكن استعانتهم بمصارعي الأرشيف في البداية إلا على سبيل الاطمئنان. غير أن رد فعل المصارعين أثار المثقفين والشيوخ والشباب عمومًاا حيث أكد للجميع إن الأمر أبعد ما يكون عن أضحوكة وإنه وإن كان هوسًا ا جماعيًاا بالفعل فوراء ذلك الهوس أكثر من حكاية. هكذا بدأت قصص الأرشيف تتوالى، قبل اكتشاف قصة الدنيا الصغيرة وبركة الدم. قيل إن الأصابع الأربعة علامة استسلام لدى ميليشيات شمال أفريقيا المتحاربة عشية الانهيار الأكبر. وقيل إنها جزء من تكوين إحدى رقصات الجنوب. ثم قيل إنها