88 َ ابن ُ تيميّة " ِ �سيخ ُ الإ�سلام ِ ومحيي ال�سُّ نّة " د. �شناء �شعلان ُ ال�سّجرة ُ الطّيبة الاأر�س ُ الطّ يبة ُ لا تطرح ُ (تُعطي) اإلا اأ�سجارا ً طيبةً، واأحمد ُ ابن ُ تيميّة َ �سجرة ٌ طيبة ٌ من ّ اأر�س ٍ طيبةٍ، فقد ْ وُلد َ اأحمد ُ بن ُ عبدِ الحليم ِ بن ِ عبدِ ال�سّ لام ِ بن ِ عبدالله ِبن ِ تيميّة ِ النّمري ِ الحرّاني ّ الدّم�سقيّ ، تقـي ّ الدّين ِ اأب� العبّا�س ِ في عائلة ٍ اأ�ُستهرت ْ بالعلم ِ والفقه الحنبليّ ، فقد ْ كان َ اأب�ه واأجدادُه ُ واأخ�انُه ُ وكثير ٌ من ْ اأعمامِ ه ِ من ْ العلماء ِ الم�ساهيرِ ، ُ كذلك َ كانت ْ اأمُّه ُ اأو والدة ُ جدِّ ه ِ محمدٍ ، وكانت ْ ت�ُسمّى تيميّة ُ واعظة ً (مَ ن ْ تن�سح وتذكّر ُ وتاأمر ُ بالمعروف ِ وتنهى عن المنكرِ ) فُن�سب َ اإليَها، وعُ رف َ بِهَا. ِ وكــان َ م�لد ُ ابــن ِ تيميّة َ المبارك ُ في يــ�م الاثنين ِ الــمــ�افــق 10 ربــيــع ِ الاأوّل ِ للعام ِ 661هــــ، الم�افق 12 كــانــ�ن الــثــانــي 1263م، وذلــــك َ فــي حــــرَّانَ ، ِ وهـــي بــلــدة ٌ تــقــع َ فــي الــ�ــسّ ــمــال ِ الــ�ــسّ ــرقــي ّ مــن بــلاد 89 90 الــ�ــسّ ــام ِ فــي جــزيــرة ِ ابــن ِ عمرو بين َ دجــلــة َ والــفــراتِ ، واإليها ن�ُسبَ ، وقد ْ اأم�سى في حرّان َ �سبع َ �سنين، ثم َ رحل َ والــدُه ُ بِه ِ اإلى دم�سق َ التي ِ كانت ْ تزخر ُ (تمتلئُ ) بالعلماء ِ والمدار�س ِ وحلقات ِ العلمِ ؛ هربا ً من جن�د المغ�ل ِ الذي ا�ست�ل�ا على (احتل�ا) حرّانَ ، وجاروا (ظلم�ا) بالعبادِ. ِ وهناك َ ن�سا أ َ الفتى اأحمد ُ خير َ ن�ساأةٍ، ونما (كبرَ) اأطيب َ نماءً، وظهرت ْ عليه مخايل ُ (جمع ُ مَ خيِلَةٍ، وهي الدلائلُ) الذّكاءِ، ودلائل ُ العناية ِ بِهِ، وتفرّغ َ للعلم ِ ولطلبِهِ، فتتلمذ َ على ُ يدي ّ والده ِ ثم َ على اأيدي علماء َ ع�سرِ هِ، حتى قيل َ اإنّهم بلغ�ا مئتي عالم ٍ في �ستّى �سروب ِ (جمع ِ �سربٍ ، وه� الن�ّعُ) العلم ِ والمعرفةِ. وا�ستغل َ (عملَ ، وق�سى وقتَهُ) بحفظ ِ القراآن ِ وتف�سيرِ هِ، وحفظ ُ الحديث ِ ودرا�سة ِ ال�سّ يرة ِ النّب�يّة ِ والفقه ِ واللّغة ِ العربيّة والخّ ط ِ والحِ �سابِ ، وكان َ الله ُ قد خ�سَّ ه ِ (ميّزَ ه ُ واأعطَ اهُ) بذاكرة ٍ حافظةٍ، وقلب ٍ �سريع ِ الاإدراك ِ (الفهمِ )، فاأتقن َ العل�مَ ، وهـ� َ دون َ العا�سرة من عمرِ هِ، فاأده�س َ اأ�ساتذَ تَه ُ و�سي�خَ ه ُ من ْ �سدّة ِ ذكائِه ِ وحافظتِهِ، فلم ْ يكن ْ ي�ستمع ُ ل�سيء ٍ اإلا علق َ في خاطرِ ه ِ (حفظَ هُ) بلفظِ ه ِ ومعناهِ، وكاأنّه ُ نُق�س َ في نف�سِ هِ، اإذ ْ لم يكن ْ كغيرِ ه ِ من ال�سّ بية ِ يلعب ُ ويله�، َ بل كان َ يطلب ُ مجال�س َ العلماء ِ دون َ ملل ٍ اأو كلل ٍ (تعبٍ ) ي�ستمع ُ اإليهم، وي�ستفيد ُ منهُم، وما كاد يبلغ ُ ال�سّ ابعة َ ع�سرة َ من ِ عمرِ ه ِ حتى بز َّ اأقرانَه ُ (تف�ّق َ على اأ�سحابِه ِ وزملائِهِ) وفاق َ (تف�ّق َ على) ِ علماء َ ع�سرِ هِ، وتفرّغ َ للتاأليفِ ، فات�سعت ْ �سهرَتُهُ، وذاع َ �سيتُهُ، وت�لَّى التّدري�س َ بدلا ً من والدِ ه (الفقيهِ: العالم ِ باأ�س�ل ِ ال�سَّ ريعة ِ الاإ�سلاميّة ِ واأَحكامِ هَا) ِ الذي ت�ُفيّ ، وكان َ من كبار ِ الفقهاء َ في الفقه ِ الحّ نبلي ّ وانتهت ْ اإليه ِ بذلك َ الاإمامة ُ (الرئا�سة ُ الدّينيّةُ) في العلم ِ والعملِ ، وكان 91 92 ِ مذهبُه ُ (طريقتُهُ) الت�ّفيق َ بين َ المعق�ل ِ (الذي يقبلُه ُ العقلُ ) والمنق�ل ِ (ال�ارد في القراآن ِ الكريم ِ وفي ال�سّ نّة ِ النّب�يةِ). َ وكان َ اأحمد ُ اإذا اأراد َ الذّهاب َ اإلى مجال�س ِ العلم ِ اعتر�سَ ه ُ جار ٌ لَه ُ يه�ديُّ ، كان منزلُه ُ في طريق ِ اأحمدَ ، وي�ساألُه ُ م�سائلَ ، فيجيب ُ عنْها اأحمد ُ �سريعا ً بفطنة ٍ (بذكاءٍ ) َ ودراية ٍ (معرفةٍ)، ويخبرُه ُ باأ�سياء ٍ تدل ُّ على بطلان ِ ما ه� َ عليهِ، فلم ْ يلبث ْ اأن ْ اأ�سلم ِ اليه�ديُّ ، وح�سن َ اإ�سلامُهُ، وكان َ ذلك َ ببركة ِ ال�سّ يخ ِ ابن ِ تيمية ِ على الرّغم ِ من �سغر �سنّهِ. كذلك َ كان َ اأحمد ُ منقطعا ً للعلمِ ، زاهدا ً (تاركا ً لحلال ِ الدّنيا مخافة ِ ح�سابِها، وتاركا ً لحرامِ هَا مخافَة َ عقابِهَا) فيما غيره، وقد ْ طلب َ والدُه ُ من �سيخِ ه ِ الذي َ يعلمُه ُ القراآن َ الكريم َ وه� �سغير ٌ اأن ْ يعِدَ ه ُ باأربعين درهما ً كل َّ �سهر ٍ اإن ْ اأحرز (حقّقَ ) تقدّما ً في حفظ ِ القراآنِ ، لكن َّ اأحمد َ امتنع َ (رف�سَ ) عن قب�لِهَا، يا �سيدي اإنّي عاهدت ُ الله َ تعالى على اأن لا اآخذ َ على " وقال َ ل�سيخِ هِ: ِ . ولم ياأخذَ هَ ا، فا�ستب�سر َ (ت�قّع َ خيراً) �سيخُ ه ُ ووالدُه ُ بِه " ً القراآن ِ اأجرا خيرا ً بعد َ هذِ ه ِ الحكايةِ، وكذلك كانَ . منارة ُ العلم ِ والتّقوى بارك َ الله ُجل َّ وعلا لابن ِ تيميّة َ في علمِ ه ِ وجعلَه ُ حجة ً (عالما ً عارفاً) َ على اأهل ِ ع�سرِ هِ، وعالم َ زمانِهِ، وي�سّ ر َ لَه ُ التعمّق َ في العل�مِ ، واأ�سبح 93 94 ُ قبلة َ المتعلّمين َ والباحثين َ عَ ن فتاوى (جمع ُ فت�ى، وهي الج�اب ْ عما ي�ُسَ كل َ من الم�سائل ِ ال�سّ رعيّة ِ والقان�نيّةِ)، حتى كان َ لَه ُ جي�س ٌ من ْ التلاميذ ِ الذين كان للكثير منهُم ْ �ساأن ٌ فيما بعد (تميّزوا واأبدع�ا) واأكرمَ ه ُ الله ُبفائ�س ِ علمِ هِ، واإتقانِهِ، واإدراكِ هِ، فلم ير َ النّا�س ُ اأو�سع َ مِ ن ْ علمِ هِ، ولا اأرفع َ مِ ن ْ درايتِه ِ (معرفتِهِ) حتى قيلَ : َ ، كذلك " ِ �سيخ ُ الاإ�سلام " َ ف�سُ مّي " ِ لم تر َ عين ٌ من راأى َ مثلَهُ، ولا راأت ْ عينُه ُ مثل َ نف�سِ ه " – ٍ ؛ لاأنَه ُ كـان َ يتحرّى (يطلب ُ ويق�سدُ) �سنن َ النبّـي محمد " محيي ّ ال�سَّ نّةِ " لُقّب َ بـ ُ �سلّى الله ُعليه ِ و�سلّم -، فيطبّقُها، ويُلزم ُ نف�سَ ه ُ بِهَا، ويدافع ُ عنهَا، ويرف�س ُ البدع َ (جمع ُ بدعةٍ، وهي ما اأ�ُستحدث َ في الدّينِ ) بعد َ اأَ ن ْ در�س َ الحديثَ ، وال�سّ نَّة واأفعال َ النّبي واأق�الَه " كل ُّ حديث ٍ لا يعرفُه ُ ابن ُ تيميّة َ لي�س َ بحديثٍ " وحياتَه ُ ومعجـزاتِهِ، حــتى قِيلَ : ُ وبذل َ ابن ُ تيميّة َ غاية َ (كلَّ) جهدِ ه ِ في محاربة ِ اأهل ِ البدعِ، فرف�س َ اأن يق�م َ فقراء الاأحمديّةِ بلب�سِ الاأط�اقِ الحديديّةِ في اأعناقِهِ م، واأكلِ الحيّاتِ ، والدخ�لِ في النّارِ الم�ستعلةِ، ِ كما رف�س َ بق�ة ٍ اأن ي�ستغيث ُ (يطلب َ الع�ن َ والم�ساعدةَ) الم�سلم ُ باأحد ٍ من َ الخلقِ ، واإنّما عليه َ اأن ْ ي�ستغيث َ بالله ِوحـدَ هُ، ونادَى ْ بذلك َ (طالب َ بذلكَ ) في جم�ع ِ الم�سلمين؛ ولذلك َ فقد ْ قام باقتلاع ِ ال�سّ خرة ِ التي كانت ْ في م�سجد ِ النّارنجِ ؛ لاأن َّ النّا�س َ يتبرّك�ن بها (يطلب�ن منها الخير َ والنّماء َ والــزيــادِةَ)؛ لاأنّهم يعتقدون اأن َّ الاأثر َ (العلامةَ) الذي ِ �سلّى الله ُ عليه – عليهَا ه� َ لقدم ِ النّبي ٍ ولم يبال ِ (يهتمّ ) بغ�سب ِ كثير – َ و�سلّم من النّا�س ِ ب�سبب ِ فعلِهِ. 95 96 ِ وتفرّغ َ ابن ُ تيميّة َ لمجال�س ِ العلم ِ والاإفتاءِ، فكان َ يبدا أ ُ مجل�سَ ه ُ كل َّ ي�م ب�سلاة ، ويثني عليهِ، وعلى ر�س�لِه ِ الكريمِ ، ثم ي�سرَع ُ (يبداأُ) َ الله ُ ركعتين، ثم يحمد بدر�سِ هِ، فيغم�س ُ عينيهِ، ويتكلّم ُ بلغة ٍ �ساحرة ٍ تخطف ُ األباب َ (جمع ُ لبٍ ، وه� َ العقلُ ) الحا�سرين، وكاأنّه ُ يفي�س ُ من بحرٍ ، فَتَمْتلِئ ُ نف��س ُ الحا�سرين بهيبتِهِ، حتى اإذا َ ما فرغ َ (انتهى) من در�سِ ه ِ فَتح عينيْهِ، واأقبَل َ على الحا�سرين بلطيف ِ الق�لِ ، وكان ِ ي�افي (يح�سرُ) مجل�سَ ه ُ خلق ٌ كثير ٌ من العلماء ِ والقادة ِ والفقهاء ِ والاأدباء ِ و�سائر ِ ع�ام (عامةِ) الم�سلمين. وكان َ اإذا قرا أ َ في مجل�سِ ه ِ اآية ً من القراآن ِ الكريم ِ طَ فَق َ (بــداأَ ) يف�سّ رُهَ ا، فينق�سي المجل�س ُ بجملتِه ِ (كلِّهِ) ومقدارُه ُ ربع ُ النّهارِ، وه� في تف�سير ِ تلك َ الاآيةِ، دون َ اأن يقرا أ َ من في مجلد ٍ �سخمٍ . " قل ه� الله اأحد " ِ كتابٍ ، وقد ْ اأملى تف�سير َ اآية وما كان َ يخل� مجل�سُ ه ُ من الاإفتاء ِ والاإجابة ِ عن الم�سائلِ ، وقد جمع َ تلاميذُ ه ُ اأكثر َ من ُ اأربعين األف َ م�ساألةٍ، قل َّ اأن ْ تك�ن َ الاإجابة ُ عن ال�احدة ِ منها في اأقل ّ من كتاب ٍ كبيرٍ ، يحتاج ُ غيرُه ُ اإلى زمن ٍ ط�يل ٍ ومطالعة ٍ ط�يلة ٍ ليقدر َ على اأن ْ يكتب َ مثلَهُ، وقد ْ لا يقدرُ. وكان َ لا ي�ساأم ُ (لا يملُّ) ممن ْ ي�ستفتيه ِ (يطلب ُ فت�اهُ) اأو ي�ساألَهُ، بل يكلّمُه ُ بب�سا�سة ٍ (بابت�سامةٍ)، حتى يك�ن من �ل�سّ و�ب ِ بلطف ٍ و�نب�ساطٍ . َ أ ه� الذي يفارقُهُ، بعد اأن يُفهمَه ُ الخطا اأمّا �سائر ُ نهارِهِ، فقد ْ كان َ يقطعُه ُ (يم�سيهُ) في عيادة ِ (زيارةِ) المر�سى في البي�ت ِ وفي المار�ستان (الم�ست�سفى)، وفي تفقّد ِ المحتاجين والفقراء ِ لا �سيما من الفقهاء ِ والقرّاءِ، َ وكان َ في ذلك َ كريما ً مت�ا�سعاً، يحترم ُ الكبير َ وال�سّ غيرَ، والغني َّ والفقيرَ، ويُدني الفقير 97 98 َ ال�سالحَ ، وي�ؤن�سُ هُ، ويق�م ُ على خدمتِه ِ طلبا ً لمر�ساة ِ اللهِ، ويكرمُه ُ اأ�سد َّ الكرمِ ، اإذ كان الكرم من �سجاياه (جمع ُ �سجيةٍ، وهي الطّ بع ُ الاأ�سيل ُ في النّف�سِ ) الاأ�سيلةِ، واإن ْ لم يجد ْ ما يت�سدّق ُ به ِ عليهِ، خلع َ �سيئا ً من ملاب�سِ هِ، وت�سدّق َ بِها متخفّيا ً كي لا يراه ُ اأحدٌ، وتك�ن ُ ال�سّ دقة ُ خال�سة ً ل�جه ِ اللهِ. وه� في �سائر ِ اأمرِ ه ِ زاهد ٌ لا يقبل ُ جراية ً (الرّاتب َ الدّائم َ الم�ستمرَّ) ولا �سلة ً (هبةً) لنف�سِ ه ِ من �سلطان ٍ اأو اأمير ٍ اأو تاجرٍ ، ولا يدّخر ُ دينارا ً اأو درهما ً اأو متاعا ً اأو طعاماً، بل ّ كان َ العلم ُ ه� َ ب�ساعتُه ُ وطِ لْبَتُه ُ (ما يطلبُ )، وما كان َ يطلب ُ طعاما ً لا�ستغالِه ِ بالعلم ِ اإلا اأن ياأتي اأهلُه ُ بِه ِ اإليهِ، كذلك َ لا ي�ستري لبا�سا ً جديداً، ولا يغيّر ُ ملاب�سَ ه ُ حتى يبدلّهَا اأهلُه ُ لَهُ، ولا يخ��س ُ في حديث ٍ عن ملذّات ِ الدّنيا، بل همُّه ُ طلب ُ الاآخرة ِ ومر�ساة ُ اللهِ، وه� َ في كل ِّ �ساأنِه ِ مت�ا�سعٌ، جميل ُ النّف�سِ . َ اأمّا ليلُه ُ فيق�سيه ِ بالتعبّدِ ، وقراءة ِ القراآن ِ الكريمِ ، حتى اإذا ما ذهب َ اللّيلُ، وح�سر ً مع النّا�س� ِ سلاة َ الفجر ِ انقطَ ع َ للدّعاء ِ ولذكر ِ الله ِحتى �سروق ِ ال�سّ م�سِ ، لا يكلّم ُ اأحدا اللّهُم َّ ان�سرْنَا، ولا تن�سْ ر علينا، وامكُر لَنْا، ولا " اأبدا ً اأثناء َ ذلكَ ، وكان َ غالب ُ دعائِهِ: تمكر ُ علينا، واهدنَا، وي�سّ ر ْ الهدى لَنْا، اللّهُم َّ اجعلنَا لَك َ �ساكرين لك َ ذاكرين، اأوّاهين ْ لَكَ ، راغبين اإليكَ ، راجين لَكَ ، ربّنا تقبّل ت�بَتَنا، وثبِّت ْ حجَ جَ نا، واهد ِ قل�بَنَا، وا�سلل " �سخيمة َ �سدورِنَا 99 100 ٍ قلب ُ اأ�سد ْ مَ ن َّ الله ُ(اأنعم َ عليه ِ نعمةً) على ابن ِ تيميّة َ بقلب ٍ ج�س�رٍ، لا يعرف ُ الخ�فَ ، فقد كان َ اأ�سجع َ النّا�س ِ في ق�ل ِ الحقِّ ، يجاهد ُ في �سبيل ِ الله ِ بقلبه ِ ول�سانِه ِ ويدِ هِ، ولا يخاف ُ في الله ِ ل�مة َ لائمٍ ، لذلك َ فقد ْ جاهد َ ط�ال َ حياتِه ِ البِدعَ، و�سن َّ حربا ً على اأهل ِ ال�سّ لال ِ والنّفاقِ . اأمّا في �ساحة ِ ال�َغى (الحربِ ) فقد ْ كان َ يتقدم ُ الجي��سَ ، لا يخاف ُ الم�تَ ، ِ يهجُ م على الاأعداءِ، كاأنّه ُ يطلُب المنيّة َ (الم�تَ )، وقد ْ �سرب َ مثالا ً رائعا ً للبط�لة ِ في جهادِه ِ في فتح ِ عكا (مدينة ٍ �ساحلية ٍ فل�سطينيّةٍ)، وكان َ ال�سّ بب ُ في تملّك الم�سلمين اإيّاهَ ا ْ بفعلِه ِ وم�س�رتِه ِ وح�سن ِ راأيهِ، كما كان َ مَ ن ْ ي�سد ُّ اأزر َ (ي�ساعدُ) المجاهدين الم�سلمين، ويبيِّن َ لهُم ْ ف�سل َ الجهادِ، واأجر َ المجاهد ِ وال�سّ هيدِ . ِ وكان َ ابن ُ تيميّة َ اأوّل َ مَ ن ْ �سد َّ على (ركبَ ) ظهر ِ ح�سانِهِ، ليك�ن َ في طليعة ِ جي��س الم�سلمين ِ التي حارَبت ْ المغ�ل َ في �سقحب جن�بي دم�سق حيث ُ انت�سر َ الم�سلم�ن، و�سلمت ْ بذلك َ بلاد ُ ال�سّ ام ِ وفل�سطين ُ وم�سر ُ والحجاز ُ من ب�ائق َ (جمع ُ بائقةٍ، وهي ال�سّ رُ) المغ�لِ . ُ وذهب َ على راأ�س ِ وفد ٍ من العلماءِ، وقابل َ (قازانَ ) ملك َ المغ�لِ ، واأخذ َ يخ�ّفُه تــارة ً (مــرةً) ويقنعُه ُ اأخــرى، حتى اقتنع َ (قــازانُ ) باإيقاف ِ زحف ِ جي��سِ ه ِ على دم�سقَ ، واأطلق َ �سراح َ جميع ِ الاأ�سرى الم�سلمين. 101 102 ِ ال�سّجن ُ وطريق ُ الآلم ِ اإذا اأحب َ الله ّ ُ عبداً، فاإنّه ُ يمتحنُه ُ ليرى مدى اإيمانِهِ، وقد ْ اأُ متحن َ ابن ُ تيميّة ٍ بفتنة ِ ال�سّ جنِ ، ف�سبرَ، واحت�سب َ اأجرَه ُ عند َ اللهِ، اإذ ْ كان َ من اأعظـم ِ اأهل ِ ع�سرِ ه ِ ق�ة ً في ق�ل ِّ الحـقِ ، وثباتا ً عليهِ، عا�سّ ا ً عليه ِ بن�اجذه ِ (متم�سكا ً به ِ بق�ةٍ) لا يعبا أ ُ (لا يبالي) بغ�سب ٍ اأي اإن�سانٍ ، لذلك َ فقد ْ اأحبَّه ُ النّا�سُ ، والتف�ا ح�لَهُ، فكرهَ ه ُ الحا�سدون، وامتلاأت ْ قل�بُهُم غيظاً. وه� َ مَ ن ْ ت�سدّى لاأعداء ِ الاإ�سلام ِ من اأهل المذاهب ِ الباطلة ِ واأهل ِ البدعِ، فكادوا لَهُ، واأوقع�ا ْ بينَه ُ وبَين َ �سلطان ِ م�سر ِ وال�سّ ّ ام ِ ركن ِ الدّين ِ بيبر�س َ الجا�سنكيرَ، فنقل ُ اإلى م�سرَ، وتمّت محاكمتُه ُ بح�س�ر ِ الق�ساة ِ وكبار ِ رجـال ِ الدّولةِ، فحكم�ا عليه ِ بالحب�س� ِ سنة ً ون�سفا ً في ِ القلعةِ، ثم اأخرج�ه ُ من ال�سّ جنِ ، وعقدوا جل�سة َ مناظرة ٍ بينَه ُ وبين َ مناف�سيه ِ وخ�س�مِ ه (مناف�سيهِ) فك�سب َ ابن ُ تيميّة َ المناظرةَ. لكنّه ُ لم ينج ُ منهُمْ ، فنُفي اإلى ال�سّ امِ ، ِ ثم عاد َ مرة ً اأخرى اإلى م�سرَ، وحُ ب�س َ فيها، ثم نُقل َ اإلى الاإ�سكندريّة َ حيث ُ حُ ب�س َ هناك َ ثمانية َ �سه�رٍ. وا�ستمرّت ْ محنة ُ (اأزمةُ) ابن ِ تيميّة ُ اإلى اأن ْ عاد َ اإلى القاهرةِ، وقرّر َ ال�سّ لطان ُ الملك ُ النّا�سر ُ محمد ٌ بن ِ قلاوون َ براءتَه ُ من التّهم ِ الم�جّ هة ِ اإليهِ، واأعطاه ُ الحق َّ في معاقبة ِ خ�س�مِ ه ِ الذين كان�ا وراء َ �سجنِه ِ وتعذيبِهِ، فما كان َ من �سيخ الاإ�سلام ِ الجليل ِ اإلا ّ اأن عفا عنهُم ْ (�سامحَ هُمْ )؛ اإكراما ً للهِ. 103 104 ْ ثم تجدّدت ْ محنة ُ ابن ِ تيميّةَ، عندما عاد َ اإلى دم�سقَ ، ورف�س َ اأن يغيّر َ فت�اه ُ في م�ساألةٍ، اأمَ رَه ُ ال�سّ لطان اأن ُ ، ف�سجنَه ُ ال�سّ لطان " ِ لا ي�سعني كتمان ُ العلم " يغير ْ راأيَه ُ فيها، لكنّه ُ رف�س َ ذلك َ بق�ةٍ، وتم�سّ ك َ براأيِه ِ قائلاً: ِ من جديد ٍ ل�ستة ِ اأ�سهرٍ ، ليخرج َ بعد َ ذلكَ ، ويُفتي بحرمة ِ �سد ِّ الرّحال ِ (التهيّا أ ُ لل�سّ فرِ ) اإلى قب�ر الاأنبياء وال�سالحين، فانتهز َ خ�س�مُه ُ الفر�سةَ، واألّب�ا (حر�ّس�ا) ال�سّ لطان َ عليه ِ مرة ً اأخرى، فقام َ بحب�سِ ه ِ من جديد ٍ واأخاه الذي كان يخدمُهُ، وكان َ ذلك َ في �سنة ِ 726هـ، ومكث َ في ذلك َ ال�سّ جن ِ حتى ت�فّاه ُ اللهُ. وك�ساأن ِ العظماء ِ فقد ْ �سيّر َ ابن ُ تيميّة َ محنتَه ُ في ال�سّ جن ِ اإلى �سبيل ٍ للنّجاح ِ والعطاءِ، وانقطع َ في �سجنِه ِ للعبادةِ، وللتاأليف ِ والكتابةِ، فاألّف َ جُ ل َّ (معظمَ ) م�ؤلفاتِه ِ في رحلتِه ِ الطّ �يلة ِ في ال�سّ ج�نِ ، وهي كثيرة ٌ اإلى حد ٍّ يتعذّر ُ معَه ُ اأن ْ تُح�سى (تعدَّ)، وقد ْ قيل َ اإنّها قد بلغت ْ الخم�سمئة ِ م�سنّف ٍ (كتابِ ) ومجلّدٍ ، وعندما منعَه ُ �سجّ ان�ه ُ من الحبر ِ وال�رقِ ، واأرادوا كتمان َ �س�تِهِ، لم تلِن ْ (ت�سعفْ ) عزيمتُهُ، وتحدّاهم، فكان َ يكتب ُ بالفحم ِ على اأوراق ٍ مبعثرة ٍ هنا وهناكَ ، دون َ اأن يطّ لع َ على كتاب ٍ بل يكتب ُ من ما " حافظتِه ِ (ذاكرتِهِ)، وكان َ ديدنُه ُ (عادتُهُ) في �سجنِه ِ �سكر َ الله ِ على كل ِّ �سيءٍ ، وترديد مق�لتِهِ: َّ ي�سنع ُ اأعدائي بي ؟!! اأنا جنتي وب�ستاني في �سدري اأنّى (اأينما) رحتُ ، فهي معي لا تفارقني، اإن ُ المحب��س " . وكان َ يق�ل ُ كذلك َ في �سجنِهِ: " ٌ حب�سي خل�ةٌ، وقتلي �سهادةٌ، واإخراجي من بلدي �سياحة " ُ مَ ن ْ حَ ب�س َ قلبَه ُ عن ربِهِ، والماأ�س�ر ُ مَ ن ْ اأ�سَ رَه ُ ه�اه ِ ابن ِ تيمّية َ اأن ْ يك�ن َ ال�سّ جن ُ �سببا ً لاعتكافِه ِ وقد ْ قــدّر َ الله ُ للم�ؤمن ِ ال�سّ ادق ِ والعابد ِ المخل�س (انقطاعِ هِ) على التّاأليفِ ، كما كان َ �سجنِه ِ في الدّيار ِ الم�سريّة ِ �سببا ً عظيما ً لانت�سار ِ م�سنّفاتِه ِ في بلاد ِ المغرب ِ قاطبةٍ، في حين ِ كان َ وج�دُه ُ في بلاد ِ ال�سّ ام ِ �سببا ً في انت�سار ِ علمِ ه ِ في البلاد ِ ال�سّ رقيّةِ. اأفول ُ ال�سّم�سِ ِ لابد َّ لل�سّ م�س ِ من اأف�ل ٍ (غيابٍ )، وابن ُ تيميّة َ كان �سم�ساً، اأ�سرقت ْ باإرادة ِ اللهِ، وكان َ اأف�لُها باإرادتِه اأي�ساً، ففي ي�م 26 من ذي القعدة ِ �سنة 728هـ، لبّى ابن ُ تيميّة َ نداء َ ربّهِ، وانتقل َ اإلى ج�ارِه ِ عن عمر 67 عاماً، بعد َ مر�س ٍ دام َ ب�سعة ٍ وع�سرين ي�ماً، ولم يعلم ْ به اأكثر ُ النّا�سِ ، الذين جزع�ا (حزن�ا ب�سدّةٍ) من خبر ِ م�تِهِ، واجتمع�ا ح�ل َ القلعة ِ حيث ُ �سجنِه ِ في دم�سقَ ، وفتح�ا باب َ القلعةِ، التي امتلاأت ْ بالخلقِ ، ٍ الذين �سل�ّا عليهِ، و�سيّع�ه ُ اإلى ظاهر ِ (الاأر�س ِ المرتفعةِ) دم�سق َ حيث ُ مرقدُه ُ الاأخيرُ، وكان�ا عندئذ ٍ يرب�ن (يزيدون) على خم�سين األف ٍ من الم�سيعّين من قادة ٍ وعلماء َ وجند ٍ وعامة ٍ من رجال ٍ ون�ساء ِ و�سبيةٍ، حتى خلت ْ دم�سق ُ من اأهلِهَا، واأُغلقت ْ الاأ�س�اقُ ، وعطّ لت ْ الاأعمالُ ، و�سُ ليّت ْ عليه ِ �سلاة ُ الغائب ٍ في م�سر َ والعراق ِ وكثير ٍ من ديار ِ الم�سلمين، وخُ تمت ْ له الختماتُ ، ورثاه ُ كثير ٌ من الف�سلاء ِ بق�سائد ِ حزينةٍ، وغاب َ في التّرابِ ، ولكن ما كان َ ن�سيا ً من�سيّاً، بل خلّده ُ عملُه ُ وجهادُه ُ ون�سرتُه ُ لله ِ ولنبيّه ٌ وم�سنفاتِه ِ في �سِ فْر الخالدين، وفي قلب ِ كل ِّ م�ؤمن ٍ مدافع ٍ عن دينِهِ، طالب ٍ ر�سى ربِّهِ، فط�بى (خير وبركةٌ) لابن ِ تيميّةَ، الذي كان حُ جّ ة َ ع�سرِ هِ، ومعيار َ الحق ِ والباطلِ ، وم�ؤثر َ الاآجل َ (الحياة َ الاآخرةَ) ُ على العاجل ِ (الحياة ِ الدّنيا) واأعج�بة َ زمانِهِ، وبحر َ العل�مِ . فهل ْ ينعم ُ الله ُعلينا بابن ِ تيميّة َ اآخر يق�د ع�دة َ م�سلمي هذا الع�سر ِ اإلى ربّهم ِ منيبين م�ستغفرين ؟؟؟. 105 لوّن معنا 106