غسان كنفاني برقوق نيسان القميص املسروق وقصص أخرى درا�سة :د .في�صل دراج 2 غ�سان كنفاين نيسان ( رواية ) برقوق القميص املسروق وقصص أخرى النا�رش وزارة الثقافة والفنون والرتاث -دولة قطر رقم الإيداع بدار الكتب القطرية : الرتقيم الدويل (ردمك) : �إخراج وتنفيذ :الق�سم الفني -جملة الدوحة لوحة الغالف :ر�سم على جدار يف خميم برج الرباجنه فهرس الكتاب 6 تقدمي 10 برقوق ني�سان 31 القمي�ص امل�رسوق وق�ص�ص �أخرى : 36 القمي�ص امل�رسوق 42 �إىل �أن نعود 48 املدفع 53 قرار موجز ال�صغري يذهب �إىل املخيم 63 غ�سان ..ال�شخ�ص والن�ص : �شهوة احلياة ومنازلة املوت 85 العار الفل�سطيني يف رواية الكاتب ملاذا تكون باقة الزهر �أكرث براءة من �صحن الكنافة؟ «مل �أحب له غري برقوق ني�سان». قالت على الهاتف ،ومتنت يل ليلة طيبة لتنام يف بيتها ،بينما كنت �أعاين الأرق يف بيتي .قمت �إىل املكتبة و�أخرجت جملد الروايات من بني �أعمال غ�سان كنفاين ،لأطعم �أرقي تلك الرواية التي ر�شحتها من �أثق يف ذوقها. طالعت رقمي �صفحتي البداية والنهاية ،ح�سبتها :خم�س ًا وثالثني �صفحة بينها ثالث �صفحات للر�سوم! بدا احلجم ال�صغري حمبط ًا ،فالرواية بحجمها النحيل ال تكفي حل�سم املعركة ل�صالح النوم �ضد �أرق بدا يف تلك اللحظة عفي ًا مبا يكفي لل�صمود حتى ال�صباح. رن ! ل َ �أعادتني البداية التي ال تخلو من ملحة رومان�سية �إىل مفتتح «رجال يف ال�شم�س» من حيث �أن�سنة الأر�ض .تبد�أ «رجال يف ال�شم�س» هكذا�« :أراح الندي ،فبد�أت الأر�ض تخفق من حتته »....ومل ّ �أبو قي�س �صدره فوق الرتاب تبتعد بداية «برقوق ني�سان» عن هذه اللمحة الرومان�سية« :عندما جاء ني�سان �أخذت الأر�ض تت�رضج بزهر الربقوق الأحمر وك�أنها بدن رجل �شا�سع ،مثقب 7 تقدمي املنت والهام�ش. بالر�صا�ص .كان احلزن وكان الفرح املختبئ فيه مثلما تكون الوالدة ويكون وهي على ق�رصها ت�ستعري بنية �ألف ليلة وليلة ،برهافة تكاد ال تف�صح عن الأمل ،هكذا مات قا�سم قبل �سنة». هذا الت�أثر ،وبينما يتناوب ال�شعر والنرث ال�رسد يف الليايل داخل منت احلكاية، لكن الأمور ال مت�ضي بالقارئ على النحو الذي ير�سمه املفتتح ،لأن الكاتب بينما يف رواية غ�سان يقوم جدل املنازعة والتكامل بني املنت ،بلغته ال�شعرية، و�ضع �إ�شارة لهام�ش ي�أخذ القارئ �إىل �رسد �رسيع له مظهر الإخبار احليادي والهام�ش ،بلغته املحايدة التي حتمل بداخلها �شعرية املفارقة ال�صادمة. مثل تراجم القدماء لل�شخ�صيات ،ي�رشح باخت�صار �سرية قا�سم من مولده يف تتمثل الرواية كذلك بنية الليايل عرب حيلة توالد ق�صة من ق�صة ،ا�ست�شهاد قرية طرية دندن قرب يافا يف اخلام�س من �أيلول�/سبتمرب� ،إىل ا�ست�شهاده يف قي�س ي�ستدعي �أباه وهذا ي�ستدعي ا�سم «�سعاد» من خالل مونولوج عن تق�صريه ني�سان�/إبريل 1970مع �ستة فدائيني من �أ�صل جمموعة عددها �سبعة يف معها ،عندما يدخل عليها كل �شهر بيد خالية ،مما يجعلنا نتوقعها ابنته �أو معركة مع دورية �إ�رسائيلية. زوجه ،ويتم �إرجاء التعريف بها بينما يتم الدفع بـ «طالل» املنا�ضل الذي لفل�سطينيي تلك الفرتة :امليالد، ّ بني املولد واال�ست�شهاد �سرية عادية �سيمنح اخلتيار خم�سة دنانري �شهرية ،وذات يوم يخربه ب�أنه �سينقطع عنه و�أن �سنوات قليلة من التعليم ،التحول �إىل الجئ ،النزول �إىل العمل مبكراً ،االن�ضمام التي �ستزوره يف �أريحا هي �سيدة حتمل وردة حمراء ،وبعد ذلك يتوىل الهام�ش �إىل تنظيم فدائيني. البحثي املراوغ تقدمي �سعاد التي تركت الدرا�سة يف دم�شق وعادت من �أجل يلتزم الكاتب يف الهوام�ش حياد امل�ؤرخ وكاتب الرتجمة ال�شخ�صية ،لكن الن�ضال. لي�س كل ما يريده الكاتب من قارئه يدركه ،يتوتر التلقي عند حادث �صغري وال نكاد نتعرف �إىل �سعاد ونعرف وجه العالقة بينها وبني والد ال�شهيد «يجدر تذكره» فقد تعرف �أحد الفدائيني الأ�رسى جثة قا�سم امليكانيكي من الذي ر�أى �أن يجمع لها من طريقه باقة من زهر الربقوق ،لكنه يدخل �إىل البيت �أريحا ،ويف اليوم التايل �أح�رضت ال�رشطة �أباه الذي اعرتف ب�أن ولده يعي�ش فال يجدها ،بل يجد قوة �إ�رسائيلية ،ويفاج�أ اخلتيار �أبو القا�سم بالكمني داخل �رشق نهر الأردن ،ولكنه بعد �أن تفح�ص اجلثة وتعرف فيها حلم قلبه �أنكر �أن البيت واختفاء �سعاد بينما كان هناك طفل ال يكف عن البكاء. تكون لولده! مل يعرف �أبو القا�سم ماذا يفعل بباقة من زهور الربقوق جمعها لها من هذه الطلقة ال�شعورية العارية يف الهام�ش �ستتكرر يف هوام�ش �أخرى .وهي الطريق حتى ال يدخل بيد خاوية هذه املرة ،ويبد�أ ا�ستجواب عبثي للرجل �أقرب ما تكون �إىل �رضبات همنجواي التي تبدو حيادية ،بينما ت�ضع �أع�صاب امل�سن حول �رس حمله الزهور �إىل �سعاد و�إن كانت ع�شيقته. الكلمات فوق جلدها. وال يرتك الكاتب الدورية الإ�رسائيلية قوة �رش م�صمتة ،بل يحكي �أن �أحد اخليار اللغوي ،ال�صارم كلغة الأخبار ،يف الهام�ش يختلف مع خيار املنت �أع�ضائها �أبراهام وهو لي�س �سوى �إبراهيم املغربي ،وكان �شقيقه قد ان�ضم الأكرث عاطفية ،و�سرنى من خالل الهام�ش جانب ًا �آخر ي�ضيء زاوية جديدة �إىل تنظيم مغربي عمايل ،فتم الت�ضييق على العائلة حتى مل تعد جتد مفراً من من الق�صة ،ت�أنيب �أبي القا�سم لنف�سه لأنه �أنكر ولده حتى ال يتعر�ض لل�رضب التعامل مع يهودي فرن�سي توىل تهريبها �إىل باري�س ومنها �إىل تل �أبيب ،لكن والإهانة يف �سنه املت�أخرة ،و�سرنى ت�أمالته ،ت�أمالت الراوي يف الواقع عن ال�شقيق الأكرب الذي ت�سبب يف هذا النزوح عملي ًا قرر البقاء يف فرن�سا وعدم �أنواع املدن يف �شبهها ب�أوالد العائلة ،لكل منهم �شخ�صيته ومزاجه ،قبل �أن الهجرة �إىل �إ�رسائيل. تقفز �إىل ر�أ�سه �صورة رجل مثقب بالر�صا�ص ،ت�رضج بزهر الربقوق ،ويكاد وبعد فرتة يدخل �شخ�ص جديد هو زياد يفاج�أ بهذا احل�شد ويحاول التن�صل املرء ي�سمع نزيز الدم يتدفق من حتته. من معرفة �سعاد ،وتف�سري وجود طفله وليد ب�أن �أمه �أر�سلته ب�صحن من �صدر مت�ضي الرواية الق�صرية على هذا النحو من الت�صارع والتكامل يف �آن بني 9 8 تقدمي كنافة �أعدته ،ملجرد �أنها جارتهم .ويقول �إنه جاء قلق ًا على طفله الذي ت�أخر. وهذه هي رواية املنت ،لكننا من الهام�ش �سنعرف �أن اجلار منا�ضل �شيوعي قدمي �أثارت �سعاد احرتامه بتمردها على �أبيها الذي يكرهه ويراه منوذج ًا للموظف البريوقراطي الذليل .ونعرف �أنها كلفته ب�أن يحاول اللحاق باخلتيار (�أبو القا�سم) قبل الو�صول �إىل البيت لي�أخذه �إىل طالل ،وهناك �سيعرف باقي املهمات. ويف املنت �ستكتمل الق�صة بجلبة يثريها �أبو القا�سم و�صوت هروب طالل ت�سمعه الدورية الإ�رسائيلية خارج البيت ،فيلكم �ضابطها اخلتيار ويكت�شف حيلته ،لكن (زياد) يقول �إن (طالل) الذي هرب لي�س �سوى طفل �صديق ابنه فر هارب ًا. يبدو �أنه جاء لي�س�أل عنه وعندما �سمع �أ�صوات اجللبة ّ نحن �إذاً �أمام �شيخ حمل الزهور �إليها وطفل حمل الكنافة ،واملحتلون ال ي�صدقون تربير وجودهما .فج�أة ينخرط الكبار يف ال�ضحك� :أبو القا�سم وزياد وال�ضابط! ويطلب �أبو القا�سم من زياد �أن يقنعهم ب�إطالق �رساحه ،ويرد زياد ب�أنه يف ذات الورطة ،ويلح ال�شيخ: � -إنها باقة زهر يا �سيدي ،باقة زهر فقط. ويرد زياد: -وملاذا تكون باقة الزهر �أكرث براءة من �صحن الكنافة؟ ون�ستطيع �أن نقر�أ الإجابة بطريقة �أخرى :وملاذا يكون �صحن الكنافة �أكرث فل�سطينية من باقة زهر؟ بحثت يف كل املتواتر حول عدم اكتمال الرواية التي ا�ست�شهد عنها غ�سان يف متوز /يوليو فلم �أجد ما ي�ؤكد �أو ينفي ،لكنها تبدو يل مكتملة هكذا ،لأن تعليق امل�صائر كلها� :سعاد� ،أبو القا�سم ،زياد ،وطالل ،اليعني عدم اكتمال احلكاية ،لكن يعني �أن احلكاية الفل�سطينية قابلة للتوالد على هذا النحو �إىل برقوق نيسان ما ال نهاية ،متام ًا مثل حكايات �ألف ليلة ،وبني الن�صني متعة القراءة ،وبني احلكايتني فارق الواقعية امل�ؤملة يف احلكاية الفل�سطينية. عزت القمحاوي 11 10 برقوق ني�سان �سنة ،وقد دفن حيث ال يعرف �أحد ،دون ا�سم( )2ويبدو الآن بعيداً ك�أنه مل يكن طوال العمر �إال واحداً من هذه الأحالم العظيمة التي تظ ّل مع املرء وك�أنها جزء منه ،وترافقه �إىل الفناء دون �أن توجد حق ًا ،ومع ذلك ف�إنها قادرة على �أن تكون مثل حقيقة ما ،يفتقدها املرء من حني �إىل �آخر، للتو من بني راحتيه.فرت ّ وي�شعر يف حلظة �أو �أخرى ملم�سها وك�أنها َّ وكانت نابل�س ،ذلك ال�صباح ،منكفئة على نف�سها وك�أنها ما تزال نائمة ،وقال �أبو القا�سم( )3لنف�سه� :إن املدن مثل الرجال ،ت�شعر باحلزن. �صدق ،وتتعاطفتفرح وتنام ،وتعرب عن نف�سها ب�صورة فريدة تكاد ال ُت ّ بغمو�ض مع الغرباء �أو تركلهم ..بل �إن الأحياء يف املدينة مثل الأوالد يف العائلة ،لكل منهم �شخ�صيته ومنزلته ومزاجه ،فثمة �شوارع حمببة، و�أخرى تتقاذف العابرين فيها بفظاظة ،و�شوارع خبيثة ،و�أخرى تت�رضج بزهر الربقوق الأحمر ّ عندما جاء ني�سان �أخذت الأر�ض �رصيحة ،ولكن �أبا القا�سم كان الآن من�شغ ًال بتلك ال�صورة الغريبة التي وك�أنها بدن رجل �شا�سع ،مث َّقب بالر�صا�ص .كان احلزن ،وكان الفرح املختبئ فيه مثلما تكون الوالدة ويكون الأمل ،هكذا مات قا�سم 1قبل ( )2يف ني�سان من عام 1970ن�رشت ال�صحف �أن دورية �إ�رسائيلية ا�صطدمت مبجموعة من الفدائيني جنوبي البحر امليت ،وقد ا�ستمرت املعركة عدة �ساعات ا�ست�شهد فيها من �أ�صل �سبعة فدائيني كانوا هناك �ستة ،ومتكن ال�سابع من الفرار ،وقد ظ ّلت �أ�سماء جميع ال�شهداء جمهولة حيث ( )1كان قا�سم خليل قد ولد يف طرية دندن قرب يافا يف اخلام�س من �أيلول من عام ،1940 تذكره :فقد ُعر�ضت اجلثث ُدفنت مبعرفة ال�سلطات فح�سب� .إال �أن حادث ًا �صغرياً وقع عند ذاك يجدر ّ و�أ�صبح بعد �سنة واحدة االبن الأوحد يف العائلة بعد �أن مات �شقيقه الذي يكربه �سنتني �إثر �إ�صابته م�شوهة بحيث ا�ستحال باحل�صبة ،ومل يتمكن قا�سم من �أن يدر�س يف مدر�سة القرية �إال حوايل �سنتني ،وقد �أ�صبح الجئ ًا على بع�ض الفدائيني الأ�رسى يف حماولة للتعرف �إليها ،وكانت �أربع جثث ّ التعرف �إىل �أي منها ،و�أبدى �أحد الأ�رسى �ش ّكه يف �أن تكون �إحدى اجلثتني الباقيتني ل�شاب يدعى يف ني�سان من عام ،1948قبل �أن يكمل العام الثامن من عمره ،وبعد ذلك �سكن يف �أحد بيوت ّ قا�سم ،كان يعمل ميكانيكي ًا يف �أريحا ،ويف اليوم التايل �أح�رضت ال�رشطة والد قا�سم الذي اعرتف ال�صفيح يف خميم عقبة جرب قرب �أريحا مع �أبويه ،ويف غ�ضون ذلك كان يعمل �إجرياً يف كاراج ب�أن ولده يعي�ش �رشقي النهر ولكنه بعدما تفح�ص اجلثة �أنكر �أن تكون لولده ،وكان الت�شويه مينع لل�سيارات يف �أريحا ،ومت ّكن –حني �صار يف الع�رشين -من �أن يطلق على نف�سه لقب ميكانيكي، تعرف �إىل اجل ّثة بوالد قا�سم نفى �أن تكون وكانت �آماله تنح�رص يف �أن يتم ّكن ذات يوم من �أن ي�صبح ميكانيكي طائرات� ،أو على الأقل مالك ًا من الو�صول �إىل قرار ،وحني ووجِ َه الفدائي الأ�سري الذي ّ لي ِ خ مبنية على معرفة حميمة بال�شاب املجهول ،وما لبث �أن تراجع عن �شهادته ،وهكذا �أُ لكراجه اخلا�ص� ،إال �أنه يف اخلام�سة والع�رشين تخلى عن هذه املطامح .كانت الأحزاب الوطنية َ �شكوكه ّ �سيتحمل بنف�سه أنه � على تن�ص عديدة أوراق � على وتعهداته توقيعه ل �سج بعدما العجوز �سبيل الرجل يف تلك الفرتة قد تخلخلت حتت ال�رضبات املتالحقة التي وجهتها ال�سلطات الأردنية ،وهكذا �ضاع ّ ّ ّ م�س�ؤولية �أي عمل ميكن البنه قا�سم الذي يعي�ش �رشقي النهر �أن يرتكبه �ضد �سلطات االحتالل. �أمله يف االلتحاق باحلزب ال�شيوعي الذي كان �أحد رفقائه يف الكاراج ميتدحه �أمامه ،فقد �ضاعت �أخبار ذلك الرفيق فج�أة ،وهكذا ف ّكر يف �أن ين�شئ حزب ًا فدائي ًا بنف�سه ،والتحق بدورة تدريب للحر�س ( )3يف الواقع �إنه ي�شعر الآن ب�أنه �أكرب �سن ًا مما هو حقاً ،ويردد لنف�سه �أن الكوارث الثالث التي تفجرت حرب ،1967 الوطني لذلك الغر�ض ،وحني �رشع ير�سم خطط ًا �صغرية ليبد�أ ات�صاالته ّ نزلت به ينوء حتتها جبل :فقدان قريته ونزوحه عام ،1948وموت �أم قا�سم بال�سل عام ،1953 و�سمع و�سط الفو�ضى �أن الفدائيني يح�شدون �صفوفهم وراء النهر ،فرتك والده ،وخميم عقبة جرب وا�ست�شهاد قا�سم قبل �سنة. واجته �إىل ال�سلط يف الثاين ع�رش من حزيران .1967 13 12 برقوق ني�سان كل �شهر ،وال ريب �أن منظر هذه الزهور �سيبدو على الطاولة البي�ضاء اقتحمته ك�أنها قذفت على ر�أ�سه بحجر :بدن الأر�ض مثل بدن رجل مث ّقب الغ�ضة ،وبدت له جمي ًال ،ثم �إن ».....وقد �شعر بالتعب وهو ي�ست ّل الزهور ّ يت�رضج بزهر الربقوق ،ويكاد املرء ي�سمع نزيز الدم يتدفق ّ بالر�صا�ص، خيل �إليه حني كان ينظر �إليها من بعيد ،وما مت�سك ًا بالأر�ض مما ّ �أ�شد ّ من حتته ،وال ريب �أن قا�سم بدا كذلك بعد هنيهات من �سقوطه ،ثم ذبلت لبثت الأفكار التي كانت حتوم على غري هدى يف ر�أ�سه �أن �أخذت ترتابط بقع الدم على �سرتته اخلاكية مثلما جتفف �شم�س ال�صيف املتو ّقدة �أوراق تذكر �أنه حني ر�أى �سعاد لأول مرة يف ب�صورة تبعث على الده�شة ،فقد ّ اله�شة. الربقوق ّ �أريحا لفت نظره قر�ص �أحمر من زهر الربقوق يتوقد و�سط �شعرها الفاحم ا�ستدار �أبو القا�سم ،و�أخذ يت�أمل من جديد تلك البقع احلمراء املمتدة ال�سواد ،و�إن ذلك بعث فيه ال�سعادة لأن طالل قال ب�أن �سيدة حتمل وردة �أمام عينيه فوق ت ّلة �صغرية ،ودون �أن يعرف بال�ضبط ما الذي يريده. حمراء �ستزوره يف �أريحا( ،)5وحتدثه عن قا�سم ،وقد دقت هذه ال�سيدة املخ�ضب باالحمرار القاين، ّ خطا نحو الت ّلة ،و�أخذ يجمع باقة من الزهر الباب يف اليوم التايل ،وطلبت منه �أن يحدثها بالتف�صيل عما حدث له قال لنف�سه وهو ينحني« :منذ �سنة و�أنا �آتي ل�سعاد بك ّفني فارغتني ()4 ا�ستد ِعي �إىل املخفر الإ�رسائيلي قبل �أ�سبوع لتعر�ض عليه جثة �أحد حني ُ الفدائيني القتلى وحني كان يروي لها ق�صته �أخذت عيناها ال�سوداوان ()6 ( )4ولدت �سعاد و ّقاد يف نابل�س عام ،1945وكان والدها موظف ًا �صغرياً يف دائرة النفو�س تن�ضحان دمع ًا من تلقائهما ،وقالت له :يا �أبا القا�سم لي�س بو�سع �أحد التي كانت �آنذاك تابعة حلكومة االنتداب ،وقد ظل موظف ًا يف نف�س املرتبة والدائرة خالل هيمنة النظام الأردين على ال�ضفة الغربية ،وهكذا مت ّكن من �إر�سال ابنته �سعاد �إىل جامعة دم�شق عام ،1962وقد در�ست ملدة �سنة يف كلية الآداب� ،إال �أنها عادت والتحقت بق�سم العلوم ال�سيا�سية ،وهناك ( )5كان طالل �شاب ًا ق�صري القامة مل يبلغ الع�رشين بعد ،ويبدو �أنه كان يتقن عبور النهر ونقل تعرفت ب�أحد ال�شبان املتحم�سني حلزب البعث ،وما لبث �أن �أحلقها باحلزب ولكنها مل ت�ستطع �أن تكون ّ الر�سائل ،ويف املا�ضي كان يزور �أبا القا�سم مرة يف ال�شهر ويعطيه ثالثة دنانري ويقول له« :قا�سم ع�ضواً منظم الوالء والن�شاط ،وكانت هذه امل�شكلة بالذات هي التي فتحت عينيها على رغبة عميقة ي�سلم عليك» وال يزيد كلمة واحدة .ويف �آخر مرة ر�آه قال له �إن �سيدة حتمل وردة حمراء �ستزوره، يف درا�سة امل�سائل التنظيمية يف العمل ال�سيا�سي ،و�ساقتها هذه الدرا�سة �إىل �إلقاء نظرة درا�سية و�أنه لن يراه بعد .وكانت تلك ال�سيدة هي �سعاد ذاتها .ومنذ ذلك الوقت تولت �سعاد �إعالته ،وكانت على احلزب ال�شيوعي ،وعلى بنية حركة القوميني العرب التي �شعرت �آنذاك �أنها �آخذة بالتمزق حتت تعطيه خم�سة دنانري يف كل مطلع �شهر. وط�أة �رصاع �سيا�سي حاد يف �صفوفها مل يكن من املمكن احلفاظ مع حدته على الوحدة التنظيمية للحركة لو مل تكن م�شدودة �إىل قانون �صارم للعالقات الداخلية ،ومل يكن من املمكن معرفة ماذا ( )6توج�س خيفة منذ ال�صباح ،وكان ي�شعر بثقل غام�ض يجثم على �صدره ،وعند الظهر جاء كان �سيحدث ل�سعاد وحلما�سها ال�سيا�سي لو مل ي�صعد حزب البعث يف تلك الآونة �إىل مرتبة ال�سلطة، �رشطيان و�أخذاه �إىل املخفر ،و�أخذ رجل �أبر�ص ،يلمع ك�أنه مدهون ي�س�أله عن قا�سم ،وبعد وهلة وقد كان ل�سعاد �آراء غام�ضة ،ولكنها بالغة الت�أثري بالتغري الذي يطر�أ على الأحزاب ال�سيا�سية عموماً، عرف يف قرارة نف�سه �أن ولده قد قتل ،ولكن الأبر�ص مل يكن قد �أ�شار �إىل ذلك بعد�« .أتعرفني كيف وذات الربامج الف�ضفا�ضة والغام�ضة خ�صو�صاً ،حني تهيمن على د ّفة ال�سلطة ،وهكذا فقد �شهدت تلك ي�سد ثقوب ال�ساقية بك ّفيه .وظل الأبر�ص ي�س�أل يت�صارع الرجل مع دموعه؟ مثلما يحاول فالح �أن ّ احلدة ،ولكنها مع ذلك �أبدت اهتمام ًا خا�ص ًا الفرتة من حياة �سعاد وقاد خمو ًال �سيا�سي ًا وحرية بالغة ّ ومل �أكن �أعرف مباذا كنت �أجيب» و�أخرياً �أدخلوه �إىل غرفة مرتعة برائحة املوت «وكان قا�سم مبجموعة من ال�شبان �أبدوا ت�صميمهم على �إحداث تغيري نحو الي�سار يف حركة القوميني العرب ،وكان هناك ،ممدداً على طاولة ،وقد نظرت �إليه حلظة واحدة فح�سب ،ثم �أخذت �أنظر �إىل راحة يده ور�أيت تعدها �سعاد عن مكانة النا�رصية يف امل�سرية الوطنية �سبب هذا االهتمام بالدرجة الأوىل درا�سة ُّ بالقوة ،وبعد ّ فيها �إرادة رجل بطل ظل مم�سك ًا ب�سالحه حتى اللحظة الأخرية ،ومل تفرد �أ�صابعه �إال العربية يف تلك الفرتة� ،إال �أن االرتباط م�ضى �أبعد من ذلك ،فقد التحقت �سعاد بالذراع الفل�سطيني ب�شدة�« :إن قا�سم �شاب �أطول قامة ،و�أ�شد �سمرة ،ثم �إنه �أن مات ،و�س�ألوه �إن كان يعرفه ،نفى ذلك ّ للحركة الذي كان قد بنى تنظيم ًا فدائي ًا �صغرياً �أطلق عليه ا�سم «�شباب الث�أر» وكانت ت�شعر ب�شيء من �سافر �إىل الكويت وهو يعمل يف كاراج لل�سيارات هناك» و�شعر بالعار لأنه يكذب ،ومل يكن يعرف خليةاالعتزاز حني كُ لِّ َفت بالقيام بات�صال �صغري يف نابل�س �إبان عطلتها ال�صيفية ،والعمل على بناء ّ أحتمل ال�سجن وال احلد« .لقد �أنكرته ،ولكنه �سيغفر يل ،ف�أنا رجل عجوز ال � ّ ملاذا كان خائف ًا �إىل هذا ّ هناك� ،إال �أن احلرب فج�أتها فقررت البقاء ،وكانت القدرات التي �أظهرتها يف االت�صال ويف العمل هي ال�رضب ،و�أريد �أن �أموت هنا ،ولي�س �رشقي النهر� ،أنت تفهمني ذلك �أيتها ال�سيدة� ..ألي�س كذلك؟» التي �أو�صلتها يف فرتة وجيزة �إىل مرتبة قيادية يف نابل�س. 15 14 برقوق ني�سان �آخر :لقد �صعد درجات ال�سلم ذلك ال�صباح دون �أن يراوده �أي �شك ب�أنه �أن ميلأ مكان �أحد ،وقد كان قا�سم بط ًال ،وعليك �أن تكون فخوراً به ،وقد �سيعود فينزلها كما �صعدها ،ويعود �إىل عامله القدمي الذي يبدو له الآن فعلت �شيئ ًا ح�سن ًا حني �أنكرته لأنك �أنقذت الكثريين من رفاقه .ال تقل �أنه غادره متام ًا� .إن للرجال �أقدارهم املكتوبة منذ الأزل ،والتي هي مثل احلقيقة لأحد ،وخذين �أنا مكان قا�سم. �أ�سمائهم ،تلت�صق بهم يف حلظة ال يدركون كيف جاءت .لقد قرع الباب ومنذ ذلك اليوم وهو يزورها يف نابل�س ،ويقيم يف بيتها يوم ًا �أو متوقع ًا وجه �سعاد مبالحمه القا�سية ،لكن اجلميلة� ،إال �أنه فوجئ بقب�ضة يومني ،وي�أخذ الدنانري اخلم�سة ويعود �إىل �أريحا ( )7وقد قال لها ذات يوم: تع�ض كتفه ،وجتذبه بعنف �إىل الداخل ،ثم �سمع ا�صطفاق الباب قوية ّ حي ًا؟» وحني قالت له« :ال» �أجابها «:هل تقبلينني «اخلتيار ..هل ما زال ّ وراءه مثل انفجار. �أب ًا.؟» وقالت �سعاد« :يا �أبا القا�سم� ،أنت والدنا كلنا ،لأن ال�شهيد كان �أخانا كلنا »..وعندها �س�ألها عما �إذا كان ي�ستطيع �أن يفعل �شيئ ًا مفيداً، وحني ا�سرتد توازنه على املقعد الذي ُق ِذف �إليه� ،أط ّلت عليه ثالثة و�أجابته �سعاد بنربتها احلا�سمة« :ذات يوم ،رمبا» ر�شي�شات ،ووراءها وقف جنديان و�ضابط .وفتح �أبو القا�سم فمه دون �أن ينوي قول �شيء معني� ،إال �أن ال�ضابط نهره« :ه�ش» وقف �أبو القا�سم م�ست�شعراً الأمل يف خا�رصته من طول االنحناء و�أخذ �أحد اجلنديني يف ّت�شه ،باحث ًا يف جيوب قنبازه عن �شيء ما، وكانت باقة الزهر الأحمر قد �أ�صبحت كبرية وبدت يف يده اخل�شنة �شعلة تنبه �أبو القا�سم �إىل وجود ثالثة �أ�شخا�ص �آخرين يف الغرفة، وعندما ّ من اللهب ،ووراء التلة كان بيت �سعاد ب�شبابيكه ال�صغرية يف الطابق واقفني ووجوههم �إىل اجلدار ،ويف الزاوية كان ثمة طفل يف العا�رشة يل الآن» ،وقرر �أن يبادرهاالثاين ،وقال لنف�سه« :رمبا كانت تنظر �إ ّ يبكي مبا ي�شبه الهم�س ،ومل تكن �سعاد هناك ،وبدت �صورة والدها باجلملة ذاتها التي بادرته بها حني زارته لأول مرة يف �أريحا ،ومن ()8 املع ّلقة على اجلدار ،ب�شاربيه العظيمني(� )9أكرث غرابة مما كانت يف ثم انطلق ناز ًال التلة �إىل الطريق ،وم�ضى نحو منزل �سعاد. م�شو�ش ًا ،غري قادر على �إعادة ترتيب ما�أي وقت م�ضى ،وكان ما يزال َّ ب�شدة على زنده ورفع يده بعنف �إىل فوق. �آخر �شيء يذكره �أبو القا�سم من عامله القدمي كان ذلك ال�سلم الطويل حدث ،حني قب�ضت يد اجلندي ّ عندها فقط �شهد باقة الزهر الأحمر مرة �أخرى ،وتعجب لهنيهة كيف مل اخل�شن الذي يو�صل �إىل بيت �سعاد� ،إال �أن الباقة احلمراء التي كانت تتو ّقد ت�سقط من يده ،ومل تتمزق و�سط ذلك العراك الأحمق الذي يجري دون يف ك ّفه ظلت �أكرث ر�سوخ ًا يف ذاكرته ،منذ هذه اللحظة� ،أكرث من �أي �شيء هدف معينّ .ودفعه اجلندي �إىل احلائط ،و�ساعده اجلندي الآخر يف �صلبه يخوله ( )7كانت وكالة الغوث قد قطعت �إعا�شته ،و�سحبت منه الدفرت الأحمر الذي كان ّ يح�صل مدخو ًال �شهري ًا تناول امل�ؤن ،وذلك لأن تقارير �شعبة التحري يف الوكالة قد �أثبتت ب�أن ابنه ِّ �شارب ْي والدها يف ال�صورة يبدوان خميفني� ،ضحكت برهة ،ثم َ ( )9حني قال ل�سعاد مرة �إن يزيد عن ع�رشة دنانري. ان�رصفت �إىل التفكري ،و�أخرياً �س�ألته« :ماذا يحدث لل�شوارب يا �أبا القا�سم حني ي�أكل الدود ج�سد الرجل امليت.؟» ومنذ ذلك احلني وهو غري قادر على �رصف هذا ال�س�ؤال من ذهنه كلما ر�أى �صورة ( )8دخلت البيت ،وانتزعت الزهرة احلمراء من �شعرها وهي تقول له« :الربقوق ورد الفقراء يا الأب ،ب�شاربيه الكبريين. �أبا القا�سم» وبعد هنيهة قالت له�« :أهل الق�سطل كانوا يقولون :هذه دماء ال�شهداء تط ّل علينا». 17 16 برقوق ني�سان -ماذا ميكن �أن يكون هذا يا �سيدي غري زهر الربقوق الذي تف َّت َح هذا �أمام اجلدار بذراعيه املفتوحتني �إىل �أق�صى ما ي�ستطيع ،وبهدوء �أرغمه ال�صباح على قارعة الطريق.؟ ال�ضابط على فتح ك ّفه ببطء ،وتناول الباقة بحذر مبالغ به ،و�سحبها مبا � -أنا الذي �أ�س�ألك. املنظم على الطاولة الرخامية( )10ووقف يت� ّأملها حلظة، ّ ي�شبه االحتفال وه ّز �أبو القا�سم كتفيه و�سكت .لقد �أدرك �أن الكالم مل يعد يفيد �أحداً، ثم ا�ستدار فج�أة بعنف: و�أن ثمة �شيئ ًا ال يفهمه يحدث بغمو�ض ،و�أمام هذه احلرية ال ي�سعه يف -ما هذا.؟ الواقع �إال �أن ي�صمت� ،إال �أن ال�ضابط نهره: -هذا.؟ -ته ّز كتفيك وك�أنك بريء� !.أتريد �أن �أ�ساعدك قلي ًال.؟ من الذي �أعطاك � -أجل ما هذا.؟ هذه الباقة ..وملاذا.؟ -كما ترى ،زهر يا �سيدي ..برقوق ني�سان. -قطفتها عن الطريق ،وكنت.... -هه! � -أ�أنت ع�شيقها.؟ وابت�سم ابت�سامة خبيثة ونظر من طرف عينيه �إىل اجلنديني ،وعاد -و�ضحك اجلندي ،فيما ت�ساءل �أبو القا�سم: ي�س�أل وك�أن فرتة املزاح التي �أتاحها قد انتهت: -ا�ستغفر اهلل ..ع�شيق من.؟ -ما هذا.؟ -ع�شيق العفريتة التي ت�سكن هنا.. -ورد ،زهر ،برقوق ،يا �سيدي.. � -أنا رجل عجوز يا �سيدي� ،أميكن �أن يحدث هذا.؟ � -إنني �أ�س�ألك للمرة الأخرية ..ما هذا..؟ � -إذن ملاذا �أح�رضت الزهر.؟ من الذي �أر�سلك.؟ ومل ي�ستطع �أبو القا�سم �أن يعرف �إن كان ال�ضابط يحاول �أن يجعل -جئت... منه �أ�ضحوكة �أم �أنه جاد حق ًا ،واكت�سحته موجة من حرية حزينة ،و�أخذ �إال �أن �صورة قا�سم جاءت عا�صفة مثل االرتطام ،ووراءها جاءت كف عن البكاء،ينظر حواليه حماو ًال اال�ستنجاد ب�شيء ما ،كان الطفل قد ّ �صورة �سعاد .ومل يعد يعرف ماذا يتعني عليه �أن يقول ،فيما �أخذ ينظر و�أخذ ينظر بف�ضول �إىل باقة الزهر الأحمر فيما كان وجهه يكت�سي حواليه وهو �شديد االرتباك ،حمتاراً حتت النظرات التي كان ي�س ّلطها وتذكر �سعاد فيما كانت الأفكار تعود �إىل الرتاكب مبالمح ت�شبه الده�شةَّ ، عليه ،ثم �س�أل ب�صوت �أده�شه كيف انفلت من �صدره مليئ ًا باال�ستجداء: يف ر�أ�سه ،وت�ساءل �إن كان يتعني عليه الآن مرة �أخرى �أن يدخل الغرفة -ماذا حدث ل�سعاد يا �سيدي.؟ هل هي بخري.؟ الثانية وينظر �إليها ممددة على ال�رسير وراحة يدها مفرودة الأ�صابع -كفى متثي ًال �أيها ال�شائب ،وقل يل ما معنى هذا.؟ وملطخة بالدم. بالقوة ّ ونظر �أبو القا�سم �إىل حيث �أ�شار ال�ضابط .كانت باقة الزهر الأحمر ملقاة فوق الطاولة ،وبدت �أقل جما ًال مما كانت ،و�أجاب: ري اللون م�شغولة ( )10مرة قالت له �سعاد وهي ت�شري �إىل الطاولة ،وكانت مغطاة ب�رش�شف �س ّك ّ الود.؟ -ماذا ميكن للزهر �أن يعني يا �سيدي غري ّ حوا�شيه بال�صنارة« :انظر ماذا كانت تفعل �أمي طوال عمرها ،ت�شتغل بال�صنارة وتفني عينيها كي تبدو طاولة �أبي حمرتمة �أمام �ضيوفه». 19 18 برقوق ني�سان �شيئ ًا مل ي�سمعه �أحد بو�ضوح ،وعاد ف�ضحك من جديد لفرتة ق�صرية -هه! ب�شدة� ،أما �أبو القا�سم فقد �شعر ب�أنه قد ّ ()12 و�صمت حني رمقه ال�ضابط الود واالحرتام.؟ -ا�س�أل ه�ؤالء كلهم� ..أيعني الزهر غري ّ جبارة تطبق على �صدره ،و�أنه بحاجة �إىل �سعاد الآن ا�صطيد ،وب�أن �أك ّف ًا ّ -من الذي بعثك بالباقة.؟ �أكرث من �أي وقت م�ضى� ..أترى انتهى ال�صمت.؟ �أ�صار بو�سعه �أن يقول � -أنا الذي قطفتها. امل�رضج املمدد على الطاولة يف خمفر �أريحا هو ّ لهم ب�أن ذلك الفتى -من الذي طلب منك �أن تقطفها.؟ �رساً �أكرث حاجة للكتمان مما ابنه قا�سم.؟ �أم �أن ذلك كله قد �أ�ضحى الآن ّ -ال �أحد.. كان يف �أي وقت م�ضى.؟ لقد �أح�س فج�أة ب�أنه م�ؤمتن على �شيء خطري ال -ما هي عالقتك ب�سعاد �إذن.؟ هل �أنت ع�شيقها.؟ يعرف ما هو بال�ضبط ،ورمبا كانت حياة �سعاد نف�سها ،بل حياة ه�ؤالء و�أخذ اجلندي( )11الواقف قرب الطاولة ي�ضحك ب�صوت مكتوم ،وقال ال�شبان الثالثة الواقفني ووجوههم �إىل احلائط ،بل رمبا حياة ذلك الطفل ال�صغري �أي�ض ًا .مع ّلقة يف كلمة واحدة قد يلفظها يف �أية حلظة دون �أن ( )11كان يهودي ًا مغربي ًا ا�سمه �إبراهيم ،ولد يف الدار البي�ضاء عام ،1945وكان �أبوه ميتلك يدري� ،أميكن لذلك ك ّله �أن يكون حقيقي ًا..؟ حي �شعبي لبيع الأقم�شة وبع�ض الألب�سة اجلاهزة� ،أما �شقيقه الأكرب فقد كان دكان ًا �صغرياً يف ّ � -إنها باقة زهر يا �سيدي ،وهي ال تعني �شيئ ًا خطرياً على الإطالق. عام ًال يف م�صنع للن�سيج يقع على بعد ي�سري من املدينة .كان الوالدان تقيني� ،إال �أن الأخ الأكرب يعقوب التحق بتنظيمات ال�شغيلة و�أخذ يظهر ميو ًال �شيوعية ،وال �شك �أن ذلك َ�س َّب َب ارتباك ًا كبرياً أمر من هنا :هذا بيت �صديقي القدمي ،وابنته وحيدة قلت لنف�سي و�أنا � ّ يف املنزل ،فقد كان الأب يربط ب�شدة بني ال�شيوعية وبني العالقات ال�سوفيتية امل�رصية ،وبالنتيجة فيه ،وال ب�أ�س لو حملت لها باقة زهر! بني ال�شيوعية وبني احلرب الإ�رسائيلية العربية ،ويف �أحيان كثرية كان اجلدل العنيف بني الأب -ال فائدة من الكذب �أيها ال�شيخ اخلبيث� .سوف ترى بعد برهة �أن ويعقوب يو�شك �أن ينتهي �إىل انف�صام يف العائلة التي مل تعتد على هذا النوع من التناق�ض، وقد و�صلت الأمور يف توترها �إىل الذروة حني �ألقى البولي�س املغربي القب�ض على يعقوب يف ال�صدق هو �أق�رص الطرق �إىل ال�سالمة� ..أتقول احلقيقة الآن �أم ماذا.؟ زهر اال�ضطرابات العمالية التي وقعت يف عام ،1963وذاقت العائلة كلها من نتائج هذا احلادث، يا �سيدي ..زهر. وتعر�ضت مثل عوائل العمال جميع ًا يف تلك الفرتة �إىل ت�شديد مبالغ فيه من قبل ال�سلطات التي -ه�ش.. واجهت الن�شاط الن�ضايل املتزايد الحتاد ال�شغيلة املغربي وللتحالف الذي ا�شتد �آنذاك بني االحتاد هذا وبني االحتاد الوطني لطلبة املغرب وبني عدة �أحزاب �سيا�سية تقدمية باملزيد من العمل ويف اخلارج جاء ال�صوت خافت ًا يف البدء ،ثم �أخذ يعلو �شيئ ًا ف�شيئ ًا، القمعي ،ويف تلك الفرتة وجد الأب يف ات�صال �أجراه معه رجل فرن�سي فر�صة للخال�ص من كل تلك كانت ثمة خطوات ت�صعد الدرج ،و�شعر �أبو القا�سم ب�أن الأمر �آخذ يف ال�شدة ،وقد انتظر على م�ض�ض خروج يعقوب من ال�سجن ،فرحل مع العائلة على منت زورق �صغري ّ مع عدد �آخر من الأ�شخا�ص �إىل ال�ساحل الإ�سباين ،ومن هناك بد�أت الرحلة الأكرب �إىل �إ�رسائيل� .إال التع ّقد ،و�أن الفخ املن�صوب يف الغرفة �إمنا يتع ّلق بق�ضية �أكرث خطراً مما �أن يعقوب قرر معانداً �أن يبقى يف فرن�سا ،فلم تكن خطط الوكالة اليهودية ودوائر الهجرة لرتوقه، انق�ض ّ يعتقد ،وبعد برهة د ّقت يد ما خ�شب الباب .ويف اللحظة التالية وهكذا م�ضى �إىل الأحياء الباري�سية التي يوجد فيها العمال املغاربة حيث وجد الكثريين من اجلنديان ،وقد فتح ال�ضابط الباب فج�أة ،على الرجل الواقف هناك رفاقه القدامى� .أما �إبراهيم الذي �صار منذ تلك اللحظة �أبراهام ،فقد و�صل يف �أواخر 1965مع عائلته �إىل ميناء حيفا ،وكان الأب حمظوظ ًا �إذ �أ�سكن يف �ضاحية قريبة من تل �أبيب ،وقد مت ّكن يف �أقل من عام �أن ي�شارك رج ًال �آخر يف ملكية دكان �صغرية لبيع الأقم�شة واملالب�س اجلاهزة� .أما ( )12برتبة كابنت ،وكان جندي ًا حمرتف ًا مع الفرقة اليهودية يف اجلي�ش الربيطاين منذ احلرب ابراهام فقد �أ�صبح عام ًال يف معمل للن�سيج يقع غري بعيد من حيث ي�سكن� ،إال �أنه منذ حرب 1967 العاملية الثانية ،وقد نال �أو�سمة عدة خلدماته يف املخابرات. ف�ضل �أن يظ ّل جندي ًا يف اجلي�ش. ّ 21 20 برقوق ني�سان ب�سبب حجمهما بدا خائف ًا �أكرث مما كان �صوته يوحي ،وكان �أول ما وقذفاه �إىل الداخل. فعله �أن نظر حيث كان الطفل جال�س ًا ين�شج بهدوء ،وه ّز ر�أ�سه ه ّزة خفيفة وامتلأت الغرفة فج�أة بجلبة غريبة ،و�أخذ الطفل الذي كان قد ركن متفح�ص ًا املوجودين ،و�س�أله ّ جعلت الطفل ي�صمت ،ثم �أخذ ينظر حواليه �إىل ال�صمت قبل برهة يبكي من جديد ،بن�شيج �أكرث مرارة ،فيما م�ضى ال�ضابط :هل تعرف �أي ًا من ه�ؤالء.؟ اجلنديان يفت�شان الرجل بعنف و�رشا�سة ثم �ساقاه �إىل احلائط ،و�أرغماه -ل�ست �أعرف �أحداً ،بل �إنني �أكاد ال �أعرف �سعاد نف�سها ،ولكن على رفع ذراعيه �إىل الأعلى ووجهه نحو اجلدار ،وعاد اجلنديان فو�ضعا العادات يا �سيدي تقت�ضي منا �أن نر�سل مثل هذه الهدايا ال�صغرية �إىل الأوراق التي انتزعاها من جيوبه على الطاولة ،ووقفا وراء ال�ضابط جرياننا. الذي قال ب�صوت ميل�ؤه رنني االنت�صار: و�أ�شار نحو ال�صحن ،وافتعل ابت�سامة �سمجة� :إنني غالب ًا ما �أف�شل يف � -صيد ثمني اليوم ،هذه امللعونة �سعاد كانت تعي�ش حتت ب�رصنا �صنع الكنافة ،و�أخ�شى �أن يكون طعم هذا ال�صحن هو اجلرمية الوحيدة ونحن ال نعرف ،وها هم �أفراد الع�صابة يتقاطرون �إىل بيتها واحداً التي ارتكبتها ..و�ضحك وحده �ضحكة �صغرية ،ثم �صمت دون �أن يخفي �إثر الآخر� ..أنت !.ما ا�سمك..؟ و�أجاب الرجل اجلديد ووجهه ما يزال �إىل حرجه ،وعاد يتودد بعد حلظة: احلائط� :إنني زياد ح�سني والد الطفل اجلال�س هنا يا �سيدي ..جئت �أفت�ش -هل �أ�ستطيع �أن �آخذ وليد يا �سيدي و�أذهب �إىل البيت.؟ �إن � ّأمه عنه بعد �أن ت�أخر. �ست�شعر بالقلق؟ قال ال�ضابط: -ه�ش.. � -إذن �أنت الذي �أر�سلته.. -هل حدث �شيء ل�سعاد يا �سيدي.؟ هل �أم�سكتموها.؟ -نعم يا �سيدي ،خبزنا �صباح اليوم �صدراً من الكنافة ،كعادتنا -ملاذا ت�س�أل.؟ احلي بعثنا مع وليد �صحن ًا ل�سعاد ..وعندما ت�أخر وليد جئت �أبحث يف ّ -لأنها جارتنا.. عنه.. -ماذا تعرف عنها.؟ ولأول مرة منذ �أن دخل الغرفة �شهد �أبو القا�سم �صحن الكنافة على � -إنها طالبة ،تقيم هنا يف ال�صيف ،ونادراً ما يزورها �أحد ،وقد الطاولة ،وكانت الق�رشة ال�شقراء تلمع من فرط ما �أ�شبعت قطراً ،وت�ساءل �أعطت هذه ال�سنة بع�ض الدرو�س يف «الأونروا» بينه وبني نف�سه�« :أتراها ق�صة حقيقية.؟ �أميكن �أن يكون زياد هذا والد -و�أين هي الآن.؟ �أو �شقيق فتى ما ا�ست�شهد ذات يوم وهو ي�أتي كل �شهر ل�سعاد كي ي�أخذ -ل�ست �أدري يا �سيدي ،كنت �أعتقد �أنها هنا ،ولذلك �أر�سلت لها �صحن خم�سة دنانري.؟» الكنافة ..ماذا فعلت يا ترى.؟ وقال ال�ضابط فج�أة: يتجول يف الغرفة وهو يف ّكر، ّ ونهره ال�ضابط بحركة من يده ،و�أخذ -ا�ستدر وانظر هنا.. ثم �س�أل فج�أة: وا�ستدار زياد ،فبدا وجهه �شديد ال�صفرة ،كانت عيناه كبريتني ،ورمبا 23 22 برقوق ني�سان و�أح�س �أبو القا�سم بكنز غام�ض ميلأ �صدره ،و�أن عليه الآن �أن يكون �أكرث � -أتعتقد �أنها �ستعود �إىل هنا.؟ حذراً ،فثمة �أمور كبرية جتري ،وهو بال ريب يلعب فيها دوراً كبرياً دون -من؟ �أن يعرف على وجه التحديد ما هو دوره هذا ،على �أنه تي ّقن الآن من �أن � -سعاد طبع ًا �أيها الغبي.. هذا الرجل ،الباحث بقلق عن ابنه ،هو الذي ينبغي �أن يقود خطواته منذ -ل�ست �أدري ..هذا بيتها على �أي حال ،وكل �إن�سان يعود �إىل بيته.. هذه اللحظة ،وا�ستجمع �أبو القا�سم �أطراف �شجاعته وقال: بحدة: وقاطعه ال�ضابط ّ � -إال �إذا ا�ستطاع الهرب قبل ذلك. � -أال ت�ستطيع �أن تقول لهم يا �سيدي �إنني رجل بريء ،و�أن عليهم وخيم ال�صمت من جديد ،فيما ظل زياد واقف ًا ينظر �إىل طفله ()13 �إطالق �رساحي..؟ بحرية ،وفج�أة حدث �شيء غريب مل يلحظه �إال �أبو القا�سم ،فقد التقت وحدث �شيء غريب يف الغرفة� ،إذ �أخذ اجلميع ي�ضحك ،مبا يف ذلك عيناه بعيني زياد ،وملح فيهما بوم�ضة ت�شبه الربق ر�سالة ق�صرية ،ت�شبه الأ�ستاذ زياد وال�ضابط ..قال زياد: ()14 �أن يقول املرء للآخر�« :أيها الرجل� ،إننا نعرف بع�ضنا ،فاطمئن».. -ماذا حت�سبني �أيها العجوز.؟ �إنني يف و�ضع �أكرث �سوءاً من و�ضعك.. ( )13مل يكن زياد ح�سني يعرف �سعاد معرفة حقيقية ،كان يعرف �أهلها ب�صورة غام�ضة، م�رصاً: ّ وقال �أبو القا�سم وكان معجب ًا بها من بعيد لكونها �أظهرت عدة مرات خالف ًا مع والدها الذي كان يحتقره ب�صورة � -إنها باقة زهر يا �سيدي ..باقة زهر فقط. ما ،كان زياد ع�ضواً قدمي ًا يف احلزب ال�شيوعي ،ثم ترك احلزب منذ بد�أت امل�صاعب ت�شتد يف �أوائل -وملاذا تكون باقة الزهر �أكرث براءة من �صحن الكنافة.؟ ال�ستينات ،ولكنه مل يرتك حما�سه له .كان �أ�ستاذاً يف املدر�سة الثانوية ،وكان ُيع َترب من املثقفني الأكرث اطالع ًا يف نابل�س ،ورمبا كان هذا بالذات ما جعل كراهيته لوالد �سعاد تقليداً قدمي ًا ال يعرف -و�صاح ال�ضابط: �سماه «�أكاكي �أكايفت�ش» كيف ن�ش�أ ،وقد ظلت هذه الكراهية حتى بعد موته .وقبل ذلك كان قد ّ -ه�ش.. وكان بالفعل يرى فيه جت�سيداً حقيقي ًا لبطل «غوغول» يف ق�صة «املعطف» وي�شاهد يف ت�رصفاته �أمنوذج ًا لذلك البريوقراطي �ضحية البريوقراطية امل�ضحك الذي ال يكف عن الن�سخ ،ولهذا بالذات وقال زياد بلهجة �ضارعة ،متجه ًا نحو ال�ضابط: �أعجب ب�سعاد بالرغم من �أن �سعاد يف تلك الفرتة مل تكن لتخفي� ،ش�أنها �ش�أن �أع�ضاء حزب البعث و�أع�ضاء حركة القوميني العرب ،كراهيتها لل�شيوعيني وحمالتها الدائمة عليهم. اكت�شفوا كل �شيء ..هل ت�ستطيع غداً �أن ت�ستك�شف يل البيت.؟ هل جا�ؤوا �أم �أنهم� »....أخذت نف�س ًا ( )14ال�صحيح �أن تلك النظرة مل تكن ر�سالة باملعنى احلقيقي ،وال�صحيح �أكرث �أنها كانت ت�شبه عميق ًا و�أكملت�« :أريد م�ساعدتك� ..إن امل�س�ألة مع ّقدة� ..أ�سلوبهم هو �أن يت�سللوا �إىل البيت كي يقب�ضوا �أن يقول املرء للآخر« :ها! هذا هو �أنت �إذن!» و�سببها ال ينف�صل عما حدث ليلة �أم�س ،فعند منت�صف على �أكرب عدد ممكن من املت�صلني بي ،ال �أريدهم �أن يقب�ضوا على طالل »..وبعد ذلك �أم�ضى زياد الليل قرع باب بيته ب�شدة ،و�إذا ب�سعاد التي ال يذكر �أنها زارتهم من قبل ،تقف هناك م�ضطربة، اخلطة ،وقد اهتديا �إىل النقطة التي يكت�شفان فيها تفا�صيل ما و�سعاد طيلة الليل وهما ير�سمان ّ وقد �أدخلها و�أيقظ زوجته ومل ي�شعل ال�ضوء ،وقالت له �سعاد ب�رسعة�« :أريد م�ساعدتك �أيها الرفيق �سيحدث يف بيت �سعاد عن طريق �إر�سال وليد ب�صحن الكنافة منذ ال�صباح ،ويف حال ت�أخره تنطلق وحارة ،ومع ذلك قال لنف�سه« :اهلل ّ زياد ».والحظ هو كلمة «رفيق» التي ه ّزت فيه م�شاعر قدمية �سعاد �رشقاً ،وي�صبح على زياد �أن يتدبر باقي املهمات�« ..سي�أتي رجل عجوز ا�سمه �أبو القا�سم، اهلل يا زمان ..احلركيون يقولون رفيق »..و�أخذ �سعاد دون �أن يتكلم و�أجل�سها يف ال�صالون وم�ضت �إذا �أدركته قبل الو�صول �إىل البيت دعه ي�أخذك �إىل طالل� ،إنه وحده الذي يعرف �أين يجده »...وقد تقول« :لقد قب�ض الإ�رسائيليون على �إحدى الرفيقات ،و�أخ�شى �أن تعرتف بعالقتها بي .ال �أ�ستطيع م�ضت �سعاد متن ّكرة باجتاه النهر بعد ربع �ساعة من غياب وليد الذي مل يكن يعرف �شيئ ًا عن الذهاب �إىل املنزل» و�أح�س ب�شيء من اخلوف� ..إال �أنها ا�ستطردت« :الق�صة هي �أنني ال �أريد �أن دوره. �أثري �ش ّكهم يف حال عدم اعرتاف الرفيقة ،ولذلك ف�إنني لن �أركن �إىل الفرار �إال �إذا ت�أكدت من �أنهم 25 24 برقوق ني�سان -ما ذنب هذا ال�شيخ.؟ �إنه يبدو �أكرث براءة منا جميع ًا� ،أال ت�سمحون � -أال �أ�ستطيع يا �سيدي �أن �آخذ ابني وليد و�أم�ضي.؟ �إن �صديقه طالل له بالذهاب �إىل بيتي ليطمئن زوجتي ،ويطمئن طالل.؟ ينتظره.. -قلت لك �أغلق فمك ،و�إال �أغلقته بالقوة.. -ه�ش.. و�أخذ �أبو القا�سم ينظر جمدداً �إىل زياد ،غري قادر على فهم ما يجري وملح �أبو القا�سم مرة �أخرى تلك الر�سالة الغام�ضة توم�ض كالربق على وجه التحديد ،وقد ا�ستطاع �أن يلتقط للمرة الثانية ا�سم «طالل»، عيني زياد وهما تطالن عليه وك�أنهما تعربان به ،ولكنهما كانتا ّ يف ولكنه مل يكن لي�ستطيع �أن يفهم ماذا يعني هذا كله ،وماذا يتعني عليه حتمالن ر�سالة ،و�أبو القا�سم يعرف �أكيداً �أنهما كانتا كذلك� ،إال �أنه مل �أن يفعل ،وم�ضى يتململ يف مقعده ،م�ستعيداً يف ذاكرته �صورة طالل يكن قادراً على فهمهما .ثمة عالقة ما بني باقة الزهر و�صحن الكنافة، القدمية ،الذي �صار يراه ملام ًا منذ �أن ت�سلمته �سعاد� .إنه يدرك �أن زياداً ورمبا كان الطفل الذي ا�سمه طالل هو جزء من تلك الر�سالة الغام�ضة، يريد �أن يقول �شيئ ًا عن طالل ،ولكن �أي طالل.؟ وما عالقته هو بالأمر.؟ ولكن �أبا القا�سم مل يكن لي�ستطيع �أن يفهم �أولئك الأ�ساتذة �أو يتجاوب لقد تذكر الآن �أنه مرة �س�أل �سعاد �إن كان طالل يعمل معهم .ف�ضحكت مع �إ�شاراتهم ،حتى يف مواقف �أكرث طالقة من هذا املوقف ،و�أورثه هذا وقالت« :لوال طالل لكانت حالتنا حالة ..طالل يا �أبا القا�سم رجل ،رجل ال�شعور غ�ضب ًا مهي�ض اجلناح ،ف�رضب راحتيه على ركبتيه وقال: قادم من حتت� »..أميكن �أن يكون الأمر على هذه اخلطورة.؟ �إن املفتاح -ل�ست �أفهم �شيئ ًا ..ل�ست �أفهم �شيئ ًا.. بيد الأ�ستاذ زياد ،وهو وحده الذي يجيب على هذه الأ�سئلة ،ولكن ملاذا ونظر �إىل زياد� ،آم ًال �أن ت�ستطيع عيناه ال�شائختان �أن تر�سال �شيئ ًا ال يفعل.؟ �إذا كان الأمر خطرياً على هذه ال�صورة ،فلماذا ال يقدم الأ�ستاذ �إىل الرجل الواقف هناك ،فيما �أخذ ال�ضابط واجلنديان ينظران بف�ضول الت�رصف.؟ وفج�أة �س�أل �أبو القا�سم نف�سه :لو كان قا�سم هنا ّ زياد على �إىل الرجل العجوز وهو يوا�صل �رضب راحتيه على ركبتيه ،و�أخرياً قال �سيت�رصف.؟ ثم عاد ف�س�أل نف�سه مرة ّ مكان الأ�ستاذ زياد ،كيف كان ال�ضابط: �أخرى :لو كان مكاين ،ماذا كان يفعل.؟ وقاطعه �صوت مكتوم ي�شبه �« -إن ق�صتك مل تنته �أيها ال�شيخ اخلبيث ،بل �إنها مل تكد تبد�أ ،ف�أح�سن خطوة خائفة ،وكان ميكن لهذا ال�صوت �أن يعرب دون انتباه لو مل يتحرك لك �أن تلتزم ال�صمت� ،أما �أنت ف�سوف تظل معهم� ..إن كل من ي�أتي �إىل هذا ال�ضابط بهدوء ،ويرفع �سالحه عن ركبتيه وهو ينظر نحو اجلنديني البيت ،طوال اليوم والأيام القادمة ،هو متهم بال�رضورة ،التحقيق �سينظر اللذين اجتها نحو الباب دون �أن ي�صدرا �أي �صوت ،وم�ضت فرتة من يف �أمر �إطالق �رساحكم �أو اعتقالكم ،والآن ال �أريد �أن �أ�سمع �صوت ًا».. خيم فيها �صمت عميق ،ثم �صدر ذلك ال�صوت املكتوم خلطوة الوقت َّ و�صاح زياد: خائفة مرة �أخرى ،وبدت وك�أنها يف �أول ال�سلم ،وعاد ال�صوت يخطو، � -أال ن�ستطيع �أن نر�سل كلمة �إىل �أهالينا.؟ وك�أنه ي�صعد بحذر .ودون �أن يتخذ قراره ب�صورة م�سبقة ،انت�صب �أبو -قلت لكم �أن ت�صمتوا.. القا�سم و�صاح: � -أال ت�ستطيع �أن تقول لنا ملاذا نحن هنا.؟ ماذا فعلت �سعاد.؟ -ملاذا تقب�ضون علينا.؟ ماذا فعلنا.؟ �إننا �أبرياء. -هذا لي�س من �ش�أين� ،ستعرفون كل �شيء يف التحقيق.. 27 26 برقوق ني�سان يعتقد الآن �أنه �أتاح فر�صة الفرار لأحدكم .كم هو خمطئ هذا العجوز وانق�ض عليه ال�ضابط و�صفعه بقفا ك ّفه ف�ألقاه على الأر�ض ،واندفع امل�سكني� !.سننتزع ا�سمه مثلما ُينت َزع ال�رض�س الننت. وجراه بعيداً �إىل الداخل ،فيما رك�ض ال�ضابط باجتاه اجلنديان نحوه ّ وتنحنح زياد ،وهو ما يزال واقف ًا مكانه ،وقال لل�ضابط: الباب ،و�أل�صق �أذنه هنيهة على اخل�شب ،ثم فتحه بعنف واجته �إىل -هذا ال�شغل �شغلكم يا �سيدي ،ولكن �إذا �سمحت يل �أرجو �أال تقلق اخلارج. مر �أمام ال�سلم هو الطفل طالل� ،صديق كثرياً ،فقد يكون ال�شخ�ص الذي ّ و�صوب فوهة ّ و�ضع �أحد اجلنديني ركبته على �صدر �أبي القا�سم، وليد ،جاء ي�س�أل عنه وخاف عندما �سمع اجللبة فهرب� ..أمل �أقل لك يا الر�شا�ش �إىل ر�أ�سه ،فيما �أخذ �أبراهام يراقب بقية املحتجزين بحذر، �سيدي قبل ذلك �إن طالل ينتظر وليد ليلعب معه.؟ وما لبث ال�ضابط �أن عاد ،و�أغلق الباب وراءه ب�إحكام وهدوء ،ثم �أ�شار -وه ّز ال�ضابط ر�أ�سه مرتاب ًا وهو يبت�سم ابت�سامة العارف الذي ال للجنديني ف�أجل�سا �أبا القا�سم على املقعد .كان فمه ينزف خيط ًا رفيع ًا ي�سهل خداعه ،وقال ب�صوت ال يكاد ي�سمع: من الدم يت�رسب يف �شعر حليته ال�شائب ،ولكنه بدا يف حالة غري خطرة، -مل تكن اخلطوة خطوة طفل.. وقال له ال�ضابط بهدوء مبالغ فيه: عيني زياد ،وهما ّ ومرة �أخرى ،مبثل ملح الربق� ،شهد �أبو القا�سم يف -لقد تعمدت ذلك �أيها الثعلب العجوز. تعربان به وم�ضة ت�شبه الر�سالة. وقال �أبو القا�سم بوهن: -تعمدت ماذا يا �سيدي.؟ -لقد �رصخت كي يهرب.. -من؟ � -أنت الذي �ستقول لنا من ..يا �إلهي !.كنت على و�شك �أن �أعتقد �أنك عجوز بريء� ..أما الآن فقد تيقنت من كل �شيء ،مل �أكن على خط�أ حني �شككت بهذه الباقة اللعينة.. � -إنها باقة زهر يا �سيدي ..برقوق ني�سان.. -ها! وتناول ال�ضابط ع�صا ق�صرية عن الطاولة ،دقيقة ك�أنها من اخليزران ،و�أ�شار بها نحو زياد ،ثم �أخذ ينقلها كم�ؤ�رش بني زياد و�أبي القا�سم .و�أخرياً اجته نحو زياد: � -أر�أيت �أيها الرثثار.؟ �أر�أيت.؟ كنت �أنت الذي اقرتحت �أن نطلق �رساح هذا ال�شيخ اخلبيث لأنه يبدو بريئ ًا !.ها! هذا ال�شغل �شغلنا� ,,إنه 29 28 القميص املسروق وقصص أخرى 31 30 القمي�ص امل�رسوق له �إذا ما دخل وهي تغر�س كفيها يف العجني ،وتغر�س عينيها يف عيونه: هل وجدت عم ًال؟ماذا �سن�أكل �إذن؟ كيف ا�ستطاع (�أبو فالن) �أن ي�شتغل هنا؟ وكيف ا�ستطاع(�أبو علنتان) �أن ي�شتغل هناك؟ ثم �ست�شري �إىل عبد الرحمن املكور يف زاوية اخليمة كالقط الكبول ،و�ستهز ر�أ�سها ب�صمت �أبلغ من �ألف �ألف عتاب ..ماذا عنده الليلة ليقول لها �سوى ما يقوله يف كل ليلة..؟: -هل تريدينني �أن �أ�رسق لأحل م�شاكل عبد الرحمن؟ ون�صب قامته بهدوء الهث ،ثم ما لبث �أن عاد ،فاتك�أ على الرف�ش املك�سور ،و�أن�ش�أ يحدق باخليمة الداكنة ،م�ست�شعراً قلق ًا عظيم ًا وهو ي�س�أل نف�سه: -وماذا لو �رسقت؟ 1 -1القمي�ص امل�رسوق �إن خمازن وكالة الغوث الدولية تقع على مقربة من اخليام� ،إن قرر �أن يبد�أ فهو ي�ستطيع بالت�أكيد �أن ينزلق �إىل حيث يتكد�س الطحني والرز، رفع ر�أ�سه �إىل ال�سماء املظلمة وهو يقاوم �شتيمة كفر �صغرية �أو�شكت من ثقب ما �سيجده هنا �أو هناك ،ثم �إن املال لي�س حالل �أحد ،لقد �آتى من �أن تنزلق عن ل�سانه ،وا�ستطاع �أن يح�س الغيوم ال�سوداء تتزاحم كقطع هناك ،من عند نا�س قال عنهم �أ�ستاذ املدر�سة لعبد الرحمن �إنهم «يقتلون البازلت ،وتندمج ثم تتمزق. القتيل ومي�شون يف جنازته» فماذا ي�رض النا�س لو �أنه �رسق كي�س طحني.. �إن هذا املطر لن ينتهي الليلة ،هذا يعني �أنه لن ينام ،بل �سيظل منكب ًا كي�سني ..ع�رشة؟ وماذا لو باع �شيئ ًا من هذا الطحني �إىل واحد من �أولئك على رف�شه ،يحفر طريق ًا جتر املياه املوحلة بعيداً عن �أوتاد اخليمة ،لقد الذين يتمتعون بقدرة عظيمة على ا�ستن�شاق روائح م�رسوقات ،وبقدرة �أو�شك ظهره �أن يعتاد �رضب املطر البارد ..بل �إن هذا الربد يعطيه �شعوراً �أعظم يف امل�ساومة على ثمنها؟ لذيذاً باخلدر. ولذت له الفكرة ،فد�أب بعزم �أ�شد على �إمتام حفر اخلندق فيما حول �إنه ي�شم رائحة الدخان ،لقد �أ�شعلت زوجه النار لتخبز الطحني ،كم يود اخليمة و�أخذ ي�س�أل نف�سه من جديد �أن ملاذا ال يبد�أ مغامرته منذ الآن؟ لو �أنه ينتهي من هذا اخلندق ،فيدخل اخليمة ،ويد�س كفيه الباردتني يف �إن املطر �شديد واحلار�س م�شغول ب�أمر الربد �أكرث من ان�شغاله مب�صلحة النار حتى االحرتاق ،ال �شك �أنه ي�ستطيع �أن يقب�ض على ال�شعلة ب�أ�صابعه، وكالة الغوث الدولية ،فلماذا ال يبد�أ الآن؟ ملاذا؟ و�أن ينقلها من يد �إىل �أخرى حتى يذهب هذا اجلليد عنهما ..ولكنه يخاف -ماذا تعمل يا �أبا العبد؟ حمج ْ ري زوجه �س�ؤا ًال رهيب ًا ما زال يقرع �أن يدخل هذه اخليمة� ،إن يف َ ورفع ر�أ�سه �إىل جهة ال�صوت ،وميز �شبح �أبي �سمري قادم ًا من بني فيهما منذ زمن بعيد ،ال� ،إن الربد �أقل ق�سوة من ال�س�ؤال الرهيب� .ستقول 33 32 القمي�ص امل�رسوق واقرتب منه �أبو �سمري بهدوء جم وو�ضع ك ّفه يهزها ببطء وهو يقول �ص َّفي اخليام املغرو�سة �إىل ما ال نهاية الظلمة.. ب�صوت خمنوق: �-إنني �أحفر طحين ًا.. -ا�سمع يا �أبا العبد� ،إن ر�أيت الآن كي�س طحني مي�شي من �أمامك فال -حتفر ماذا؟ تذع اخلرب لأحد! � -أحفر� ..أحفر ..خندق ًا.. -كيف؟ و�سمع �ضحكة �أبي �سمري الرفيعة التي �رسعان ما تال�شت يف ثرثرته: قالها �أبو العبد و�صدره ينب�ض بعنف ،و�شم رائحة التبغ من فم �أبي -يبدو �أنك تفكر بالطحني� ،إن التوزيع �سيت�أخر �إىل ما بعد الأيام �سمري وهو يهم�س وقد فتح عيونه على و�سعها: الع�رشة الأوىل من ال�شهر القادم� ،أي بعد خم�سة ع�رش يوم ًا تقريب ًا ،فال -هناك �أكيا�س طحني مت�شي يف الليل وتذهب �إىل هناك.. تفكر منذ الآن �إال �إذا كنت تنوي �أن ت�ستعري كي�س ًا �أو كي�سني من املخزن.. � -إىل �أين؟ ور�أى ذراع �أبي �سمري ت�شري باجتاه املخازن ،وملح على �شفتيه � -إىل هناك.. ال�سميكتني ظ ًال البت�سامة خبيثة ،و�شعر ب�صعوبة املوقف ،فعاد ي�رضب حاول �أبو العبد �أن يرى �إىل �أين ي�شري �أبو �سمري ولكنه وجد ذراعيه الأر�ض برف�شه املك�سور. م�سدلتني على جنبيه ،بينما �سمع �صوته يهم�س ببحة عميقة: -خد هذه ال�سيكارة ..ولكن ال� ،إنك لن ت�ستفيد منها ،فاملطر مزعج.. � -ست�أخذ ن�صيبك. لقد ن�سيت �أن ال�سماء متطر ،عقل من الطحني ..مثل احلجر.. -هل هناك ثقب تدخلون منه؟ و�أح�س ب�ضيق ي�أخذ بخناقه� ،إنه يكره �أبا �سمري منذ زمن بعيد ،هذا ورفع �أبو �سمري ر�أ�سه نافي ًا ومفرقع ًا ل�سانه مبرح ،ثم هم�س ب�صوت الرثثار اخلبيث: ن�صف مبحوح: -ما الذي �أخرجك يف هذا املطر؟ � -إن �أكيا�س الطحني تخرج لوحدها� ..إنها مت�شي! -خرجت ..خرجت لأ�س�ألك �إن كنت تريد امل�ساعدة. � -إنك جمنون.. -ال� ..شكراً.. -ال ،بل �أنت م�سكني ..ا�سمع ،ولندخل يف املو�ضوع مبا�رشة� ،إن ما -هل �ستحفر طوي ًال؟ علينا هو �أن نخرج �أكيا�س الطحني من املخزن ونذهب بها هناك� ،إن -معظم الليل.. احلار�س �سيمهد لنا كل �شيء كما يفعل دائم ًا� ،إن الذي �سيتوىل البيع لي�س � -أ مل �أقل لك �أن حتفر خندقك يف النهار؟ �إنك دائم ًا تذهب �إىل حيث ال �أنا ،وال �أنت� ،إنه املوظف الأمريكي الأ�شقر يف الوكالة ..ال ،ال تعجب ،كل �أدري وترتك اخليمة ..هل تذهب للبحث عن خامت �سليمان؟ �شيء ي�صبح جائزاً ومعقو ًال بعد االتفاق.الأمريكي يبيع ،و�أنا �أقب�ض، -ال ..عن �شغل.. واحلار�س يقب�ض ..و�أنت تقب�ض ،وكله باالتفاق ،فما ر�أيك؟ ورفع ر�أ�سه عن الرف�ش وهو يلهث.. و�شعر �أبو العبد �أن الق�ضية �أ�شد تعقيداً من �رسقة كي�س �أو كي�سني� ،أو -ملاذا ال تذهب لتنام وترتكني وحدي؟ 35 34 القمي�ص امل�رسوق املنظم� ،إنه يطلب مني دائم ًا �أن �أ�ضع الوقت باملقدمة .وهو ال يحب ع�رشة ،وراوده �شعور لزج بالقرف من املعاملة مع هذا الإن�سان ..ثقيل الت�أخري يف املواعيد ..علينا �أن نبد�أ الآن� .أ�رسع. الدم كما تعارفوا عليه يف املخيم كله ..ولكنه يف الوقت ذاته راقه �أن و عاد يت�صور الأمريكي واقف ًا امام �أكيا�س الطحني ،ي�ضحك بعيون يعود يوم ًا �إىل خيمته ويف يده قمي�ص جديد لعبد الرحمن ،و�أغرا�ض زرقاء �ضيقة ويفرك راحتيه النظيفتني بحبور وطم�أنينة ،ف�شعر ب�ضيق �صغرية لأم العبد بعد هذا احلرمان الطويل ،كم �ستكون ابت�سامتاهما غريب ،وخطر له �أن ذلك الأمريكي كان يبيع الطحني يف الوقت الذي جميلتني� ،إن ابت�سامة عبد الرحمن ،لوحدها ،ت�ستحق املغامرة ال �شك، كان يقول فيه لرجال املخيم ولن�سائه �إن توزيع الإغاثة �سيت�أجل �إىل ولكنه لو ف�شل� ..أي م�صري �أ�سود ينتظر �أم العبد وولدها.؟ .يومها �سيحمل نهاية الأيام الع�رشة الأوىل من ال�شهر ،و�أح�س بنقمة طاغية ،هي �صدى عبدالرحمن �صندوق م�سح الأحذية ليتكور يف ال�شارع هازاً ر�أ�سه ال�صغري لإح�سا�ساته يوم كان يرجع من املخازن ليقول لزوجته ب�صوت ك�سري فوق الأحذية الأنيقة ،يا للم�صري الأ�سود! ولكنه لو جنح ف�سيبدو عبد �إنهم �أجلوا توزيع الطحني ع�رشة �أيام ،كم هي م�ؤملة خيبة الأمل التي الرحمن �إن�سان ًا جديداً ،و�سيقتلع من عيون زوجه ذلك ال�س�ؤال املخيف. كانت ترت�سم يف وجهها الأ�سمر املجهد ،لقد كان يح�س الغ�صة تتعلق لو جنح ،ف�ستنتهي م�أ�ساة اخلندق يف كل ليلة ممطرة ،و�سيعي�ش حيث ال ب�ألف ذراع يف حنجرته وهي تنظر ب�صمت مريع �إىل كي�س الطحني الفارغ ي�ستطيع �أن يت�صور الآن.. يت�أرجح على ذراعه كامل�شنوق ..لقد كانت تعني يف نظرتها تلك �أن ع�رشة -ملاذا ال ترتك هذا اخلندق امللعون ،ابد�أ قبل �أن ت�رشق ال�شم�س؟ �أيام �ستم�ضي قبل �أن يجدوا طحين ًا للأكل .كان يبدو له �أي�ض ًا �أن عبد نعم ملاذا ال يرتك اخلندق..؟ �إن عبد الرحمن يلهث من الربد يف طرف الرحمن يفهم املوقف متام ًا ،لقد كان يكف عن طلب الأكل ب�إحلاح.. اخليمة ،ويكاد يح�س �أنفا�سه تلفح جبينه البارد ..كم يود لو �أنه ينت�شل يف كل خيام قرية النازحني كانت العيون املتلهفة تقع يف خيبة عبد الرحمن من هزاله وخوفه ،لقد �أو�شك املطر �أن ينقطع ،وبد�أ القمر يف الأمل ذاتها ،كان على كل طفل يف املخيم �أن ينتظر ع�رشة �أيام لي�أكل ال�سماء ميزق طريق ًا وعراً. خبزاً .هذا �إذن هو �سبب الت�أجيل� ،أبو �سمري الواقف �أمامه كال�شبح الأ�سود، و�أبو�سمري ،ما زال واقف ًا �أمامه كال�شبح الأ�سود ،غار�س ًا قدميه غار�س ًا قدميه يف الطني قلق ًا مل�صري م�ساوماته ،هو والأمريكي الذي الكبريتني يف الوحل ،رافع ًا ياقة معطفه العتيق �إىل ما فوق �أذنيه� ،إنه يفرك راحتيه النظيفتني �أمام �أكوام الطحني وهو ي�ضحك بعيون زرقاء ما زال واقف ًا ينتظر ،هذا الإن�سان الواقف �أمامه ،يحمل معه قدراً جديداً �ضيقة.. غام�ض ًا ،ي�ساومه لريفع معه الأكيا�س من املخزن� ،إىل مكان ما ،ي�أتيه مل يدر كيف رفع الرف�ش �إىل ما فوق ر�أ�سه وكيف هوى به بعنف رهيب الأمريكي كل �شهر ويقف �أمام �أكوام الطحني يفرك راحتيه النظيفتني، على ر�أ�س �أبي �سمري ،وهو ي�صيح يف وجهه �إن الطحني لن يت�أجل توزيعه وي�ضحك بعيون زرقاء كعيون قط يتحفز �أمام جحر ف�أر م�سكني. هذا ال�شهر.. -منذ متى و�أنت تتعامل مع هذا احلار�س وذلك املوظف؟ كان ال يزال راغب ًا يف �أن يراه يبت�سم لقمي�ص جديد.. -هل تريد �أن حتقق معي �أم ت�أخذ ثمن الطحني وتذهب لت�شرتي ف�أخذ يبكي.. ال�شياطني؟ا�سمع �إن هذا الأمريكي �صديقي ،وهو �إن�سان يحب العمل 37 36 �إىل �أن نعود يعد ثمة �رضورة لبقائه ،وي�شعر بالتايل �أنه تعب ،مرهق ،يكاد يتهاوى، ك�أمنا انتهى لتوه من �شد قارب كبري من البحر �إىل رمل ال�شاطئ املبلول لكنه مع هذا كله ،كان ي�سري ،مندفع ًا ك�أنه ي�سابق نف�سه ،كان ن�صفه العلوي يتقدم منحني ًا عن بقية ج�سده ..فالرمل الناعم يعوق �رسعة قدميه ،كان ق�صرياً� ،أ�سمر الب�رشة ،حمروقاً ،مل يكن يف وجهه �أي �شيء ي�ستلفت النظر لأول وهلة ،كل ما هنالك �أن لفمه �شفتني رقيقتني تنطبقان يف ت�صميم، �إن �شكل وجهه يثري يف الإن�سان لدن تدقيق النظر �شعوراً ب�أنه ي�شاهد حق ًال �صغرياً ،بل و�أكرث من هذا ،ف�إن اخلطني اللذين ي�شقان جبهته يحب الإن�سان �أن ي�شبههما ب�آثار «�شفرات» حمراث مر لتوه من ذلك املكان.. لقد بد�أت رائحة �أر�ضه تذيب �أحا�سي�سه� ،شيء جميل �أن ي�شم املرء جزءاً من ما�ضيه� ،إن ر�أ�سه الآن تنفتح ك�أنها �صندوق عر�س منقو�ش بال�صدف ويحوي كل �شيء ،ويرى فيه داره ال�صغرية الرطبة ،وزوجه تر�ش الرتاب 2 � -2إىل �أن نعود باملاء ،ثم يرى نف�سه �آتي ًا من حقله بقدميه املوحلتني� ،إن ال�صورة يراها �أمامه هكذا ،بل و�أكرث من ذا ،ك�أنه ي�ستعيد منظراً عا�شه قبل دقائق فح�سب، ..مع �أ�شعة ال�شم�س التي كانت ت�أكل ر�أ�سه وهو وحيد يف �صحراء �إنه يرى ال�صورة بكل تقاطيعها الدقيقة ،حتى لريى نف�سه كيف ي�سري ،مل النقب ،كان ي�سمع �صخب �أفكاره يف ر�أ�سه ك�أنها جمموعة م�سامري تدق.. يتي�رس له قبل الآن �أن يراقب �سريه بهذا الو�ضوح وهذا الإمكان. وال تنغر�س. وهو يقرتب من �أر�ضه ،هكذا ي�شعر يف �أعماقه عندما بدت له �أول �إن �أنفه يعمل الآن متام ًا كما تعمل البو�صلة ،وهو ي�شعر �أنه يقرتب (بيارة) من (بيارات) �أهل قريته ،ابتد�أ ال�صوت الذي ودعه على فوهة من هدفه� ،إنه يعجب لنف�سه كيف مل ينقطع عن التفكري العنيف طوال هذه النقب اجلنوبية يدق ر�أ�سه ،ويتجاوب �صداه يف ج�سده: ال�ساعات املم�ضة ،لقد فكر يف هذه ال�ساعات كما مل يفكر �أبداً طوال ثماين « -هي �أر�ضك� ،أمل تع�ش هناك؟ ح�سناً� ،إنك تعرفها �أكرث من �سواك ،يف �سنوات. واحد من احلقول بنى اليهود خزان ًا ي�سقي امل�ستعمرات القريبة� ،أعتقد �أنك ويغر�س قدميه يف الرمال الناعمة ،ويقتلعها كما تقتلع قطعة اخل�شب فهمت� ،أن الديناميت الذي حتمله يكفيك.»... العتيقة عن غراء مل يجف بعد كما يجب ،ثمة �أحا�سي�س �ضخمة متتلك عنه مل يتكلم بعدها ،بل انطلق عرب النقب وحيداً ،وحيداً �إال من هذه الزوبعة ذكرياته� ،إن هذه الأحا�سي�س لتتداخل يف بع�ضها وتت�شابك حتى لي�شعر التي تثور يف �أعماقه ..وها هي �أر�ضه ،حيث درج يلهو ،ت�ستلقي يف �أنها الزمته زمن ًا طوي ًال ،وي�صعب عليه الآن �أن يت�صور نف�سه كيف كان �أح�ضان اجلبل با�ست�سالم. بدونها� ..إنه عط�شان �إىل حد ي�شعر فيه ب�أن حلقه �أ�ضحى جاف ًا جامداً ،فلم 39 38 �إىل �أن نعود فريدة من نوعها ،كان يحبها ويعنى بها ،هنا ،قرب الباب املتداعي كانت و انزلق بني احلقول اخليالية يف حذر ،م�ستمداً من رائحة ترابه �شعوراً تنام زوجته ليايل ال�صيف ،كان يف تلك الأيام يدعو جريانه للجلو�س، بقدرة ال تقهر ،و�أ�صابعه تطبق على �سكينه يف تهي�ؤ «وح�شي»� .إن ر�أ�سه فت�رسه زوجته وتر�ش ال�ساحة باملاء فتك�سبها رطوبة حمببة. ت�شتط به وتختلط يف تاريخ احلقول التي يعرفها جيداً ،ويجد عنت ًا �شديداً وفج�أة وبدون �أي �سابق �إعالم �سقطت من �أعماقه الالواعية �إىل حياته يف العودة �إىل احلقيقة. الواعية �صورة مدوية مروعة ،اجتاحته كالطوفان ،هوت �إىل حوا�سه كلها وعندما ا�ستدار حول حقل كان لأبي ح�سن -جاره -يف يوم من دفعة واحدة ف�شغلتها كلها ،قبل �أن يرحال بيوم واحد. الأيام ،ر�أى نف�سه ي�شد ر�أ�سه عالي ًا وهو يرقب ب�شعور غام�ض خزان املياه، بيوم واحد فقط ،دخل اليهود �إىل البيارات ،ووجد �أن عليه �أن يرتك ولو يرتفع ك�أمنا لي�صل الأر�ض بال�سماء ..لي�ؤمن لها املاء .لكنه �ساءه �أن يقف وجر زوجته وترك �أر�ضه ،و�سار� ...إال �أنه قبل �أن �إىل حني -ذلك العطاءّ .. اخلزان ،هكذا ،يف احلقل املعطاء� ..إنه بوقوفه هذا ي�شوه �إح�سا�س ًا جمي ًال يجتاز باب حقله املقطع ،دنا �إىل زوجته ،و�ألفى نف�سه م�شدوداً �إىل دمعة �أح�سه هو ،وجميع جريانه ،طوال حياتهم� ..أنهم -الفالحني -يح�سون كبرية يف عينيها الوا�سعتني ..ك�أمنا هي ذوب حنني ...كان يريد �أن يقاوم الأر�ض �إح�سا�س ًا بينما ينظر �سواهم �إليها كم�شهد عابر� ،إن �أي حقل ،يبعث لكنه ر�أى نف�سه حماط ًا بالت�سا�ؤالت التي غر�ستها دمعة زوجه يف عروقه بالفالح �شعوراً تلقائي ًا ب�أنه -ذلك احلقل ،يلقي على موجوداته ظل الأبوة الزرقاء � :إىل �أين؟ و�أر�ضك؟ �ألي�س من الأف�ضل �أن تعيد �إىل الرتاب عطاءه مهما عظمت ،في�شعر الإن�سان �أنها يف حماية قوة غام�ضة ،هائلة ،خميفة، حلم ًا ودم ًا ؟ لكنها حمببة. ودون �أن يتكلم� ،سحب زوجه من يدها �إىل حقله ،ومل ي�ستطع �أبداً �أن ولكن اخلزان يدمر هذا الإح�سا�س ،وهو واقف هناك كحقيقة مرة يحرر نف�سه من النداء الطيب يف العيون الوا�سعة. تعطيه نوع ًا �آخر من امل�شاعر ،بل �إنه يح�س �إح�سا�س ًا عميق ًا �ساكن ًا ب�أن يف تلك الليلة� ..شنق اليهود زوجه على ال�شجرة العجوز بني ال�ساحة الأر�ض نف�سها ترف�ض اخلزان ..ال تريد �أن حتميه� ،إنه يعني �شيئ ًا �آخر ،غري واجلبل� .إنه يراها مدالة عارية متاماً ...كان �شعرها حملوق ًا ومربوط ًا �إىل الري واملاء� ،شيئ ًا كبرياً دامي ًا كامل�أ�ساة. عنقها وينزف من فمها دم �أ�سود ملاع ..لقد �شدوا خ�رصها النحيل �شداً وحب�س �أنفا�سه وهو يرقب من خالل العوا�سج �أر�ضه التي تك�سب عليها جمنوناً ،مل يكن يف وجهها كله ،ما ي�شري �إىل �أنها كانت ،قبل هنيهة ،متلأ عرقة ليخلقها من العدم ،ها هو �إذن البيت ال�صغري الذي كان ي�أوي �إليه مع ال�ساح ر�صا�ص ًا وناراً ودماً ،يف ذلك الوقت ،كان هو مربوط ًا �إىل ال�شجرة زوجه �أيام العمل املتوا�صل يف مو�سم احل�صاد ،فلقد كان بيت ًا جمي ًال على املقابلة ي�شهد كل ما فعلوه عاجزاً ،لقد �شدوه �إىل ال�شجرة بحبال احلراثة ما فيه من توا�ضع� ،أما الآن ،فلقد تهدمت ناحية منه ،والناحية الثانية بعد �أن �سلخوا ظهره بالكرابيج اجللدية طوال بعد الظهر ،وتركوه ي�شهد كل التي تتكئ على �صخور اجلبل قد عالها الغبار و�صبغتها ذرات ر�صا�صية �شيء ،تركوه يحدق وي�صيح كاملنجون ..لقد ح�شوا فمها بالرتاب عندما من دخان (املوتور)� ،إن اخلزان يقتحم حياته ب�شكل مزعج ،لقد �أقيم يف قالت له مع ال�سالمة وماتت .وتركوه مي�ضي كي ميوت بال�صحراء مع ال�ساحة التي كان يجل�س فيها وزوجته قبل �أن يناما ،يتحدثان فيها عن ذكرياته.. الذرة والقمح ،لقد كان يف مكان قائمة اخلزان الأقرب للدار �شجرة �أجا�ص 41 40 �إىل �أن نعود �إنه ال ينظر الآن �إىل هذه ال�صورة نظرة امل�شاهد ،ال� ،أبدا� ،إنها تتفاعل ب�أعماق �أعماقه ويح�سها ويراها تن�سكب على �أع�صابه كالر�صا�ص املذاب� ،إن ذاته تتفاعل الآن مع املا�ضي ب�شكل عجيب ،مل ي�ستطع �أن يخلع نف�سه من ال�صورة الدموية ،وال �أن يخلعها من نف�سه ،كان حا�رضه ميتزج مع ما�ضيه مزج ًا معقداً� ،إن �صوت ا�ستغاثات زوجه و�أنينها املقطع املحروق ،و�صوت �أ�سنانها مت�ضغ الرتاب ،و�صوت حنجرته وهي تطبق على �صياحه يف بحات ه�ستريية ،كل هذا ،كان ميتزج امتزاج ًا مت�شابك ًا ب�صوت االنفجار املروع ،و�صوت اخلزان العمالق يقتلع من الوجود.. وميت�ص الدخان الأ�سود بع�ض �أحا�سي�سه الدامية ،ويرنو �إىل احلطام بهدوء �صاخب.. يح�س ك�أمنا قدلقد عاد يف امل�ساء �إىل خيمته ،كان متعب ًا منهوك ًاّ ، تباعدت مفا�صله عن بع�ضها ،وعلى ع�ضالته �أن تتوتر �إىل الأبد كيما تن�شد بينها ،و�أح�س وهو ي�صافح الإن�سان الذي ودعه قبل �أن يذهب �إىل مهمته �أنه ما زال يف املعركة التي بد�أت منذ زمن بعيد ..و�سمع �صوته: ماذا ؟ انتهى كل �شيء على ما يرام ؟ -وه ّز ر�أ�سه يف �إعياء..وعاد ي�سمع �صوت الرئي�س: -هل �أنت تعب؟ وه ّز ر�أ�سه نفي ًا وهم�س ب�صوته العميق املجروح: -هل �أعددت مهمة �صباح الغد؟ وو�صله �صوت رئي�سه من بعيد: ولكنك ال ت�ستطيع �أن تتابع غداً ..يجب �أن ت�سرتيح.. ودون �أن يفكر �أجاب :بل �أ�ستطيع.. � -إىل متى حت�سب �أنك ت�ستطيع �أن توا�صل على هذه ال�صورة ؟ قال وهو ي�سند ر�أ�سه على كي�س املتفجرات : � -إىل �أن نعود.. دم�شق 1957/6/24 43 42 املدفع ال�صبيان كل �أحا�سي�سهم وتخيالتهم التي ير�سمونها للرجل املمتاز.. وليد املغامرة القا�سية. لقد عاد �سعيد م�ؤخراً من يافا ،و�أح�رض معه ر�شا�ش ًا من طراز (املا�شينغن) كان قد ق�ضى قرابة �أ�سبوع كامل يجمع ثمنه من التربعات ،ومع �أن �سكان ال�سلمة كانوا على يقني كبري �أن ثمن مدفع من هذا الطراز ال ميكن �أن يجمع من التربعات ،فلقد �آثروا �أن ي�سكتوا، لأن و�صول املدفع الرائع �أهم بكثري جداً من طريقة و�صوله ،فالقرية يف �أ�شد احلاجة �إىل �أي نوع من �أنواع ال�سالح ،فكيف �إذا ح�صلت على �سالح من نوع جيد؟. لقد عرف �سعيد احلم�ضوين ماذا ي�شرتي! �إن هذا املدفع ،مدفع (املا�شينغن) كفيل برد �أي هجوم يهودي م�سعور� ،إنه نوع راق من ال�سالح ،والقرية يف �أ�شد احلاجة �إليه ..فلماذا يفكرون يف طريقة و�صول 3 -3املدفع املدفع ؟ .ولكن �سكوت رجال ال�سلمة ،ال يعني �سكوت ن�سائها ،لقد بقيت امل�شكلة بالن�سبة لهن تلح �إحلاح ًا قا�سي ًا ،وملا مل يجدن من يدلهن على لقد عرفه اجلميع ..وكادوا �أن يعهدوا وجهه كجزء ال ينف�صل عن حقيقة الأمر ،ا�ستطعن �أن يقنعن �أنف�سهن� ،أن �سعيد احلم�ضوين كان قد القرية كلها :وجهه املربع يعرت�ضه حاجبان يت�صالن ببع�ضهما البع�ض �سلم يف ثورة 1936مدفع ًا من هذا الطراز �أبلى من خلفه بالء ح�سن ًا، ب�أخدود يعني طرف �أنفه العلوي ،و�أنفه املفلطح تدور ب�أ�سفله دائرتان ثم خب�أه يف اجلبال �إىل �أن �آن �أوان ا�ستعماله من جديد ..ولكن الت�سا�ؤل وا�سعتان فوق �شارب رمادي كثيف ،يتدىل ،فيخفي �شفته العليا� ..أما بقي مت�ضمن ًا يف �أعمق �أعماق ال�سلمة ،مل يكن من الي�سري �أن يجمع ذقنه فلقد كانت عري�ضة حادة ،ك�أنها قطعت لتوها من �صدره ،ومن الإن�سان ثمن مدفع من طراز املا�شينغن.. ثم ،بردت رقبته الثخينة برداً. �إذن فمن �أين �أتى �سعيد احلم�ضوين بهذا املدفع ؟ نعم. �إن �سعيد احلم�ضوين نادراً ما يتكلم عن ما�ضيه� ،إنه دائم ًا يتحدث من �أين؟ عما �سي�أتي ،وما ينفك يعتقد �أن غداً �سيكون �أح�سن من اليوم ،ولكن املهم� ..أن هذا املدفع الأ�سود �صار قوة هائلة تكمن يف نفو�س �أهل �أهل(ال�سلمة) يتناقلون فيما بينهم ،ب�شيء كثري من املبالغة� ،أخبار ال�سلمة ،وهو يعني بالن�سبة لهم �أ�شياء كثرية� ،أ�شياء كثرية يعرفونها، �سعيد احلم�ضوين �أيام كان يقود حركات ثورية يف ،1936يقولون - و�أ�شياء �أكرث ال يعرفونها ..ولكنهم ي�شعرون بها ،هكذا ،يف �إبهام مطمئن.. هناك يف القرية � -إن �سعيداً �أطلق �رساحه من املعتقل لأنه مل يدن.. �إن كل كهل وكل �شاب يف ال�سلمة� ،صار يربط حياته ربط ًا وثيق ًا بوجود ويقال �إنه مل يقب�ض عليه بعد ،ومهما يكن ،فهو الآن ميلأ القرية ،ويربط 45 44 املدفع كل �إح�سا�س بالوجود : هذا املدفع ،و�صار من �صوته املتتابع الثقيل� ،أثناء جتربته يف كل -املدفع ..لقد �أ�صابه العطب� ..إن ما�سورته تتحرك بغري ما توجيه.. �أم�سيتني ،نوع ًا من ال�شعور باحلماية.. اليهود يتقدمون. وكما يرتبط ال�شيء بالآخر� ،إذا تالزما ،ربط النا�س �صورة املدفع و�أح�س �سعيد احلم�ضوين بقوة جبارة تقتلع من جوفه �شيئ ًا يع ّز عليه بوجه �سعيد احلم�ضوين املربع ،مل تعد جتد من يف�صل هذا عن ذاك يف �أن ي�ضيع منه� ،شيئ ًا كقلبه ال ي�ستطيع �أن يتابع وجوده �إال معه ..كان حديث الدفاع عن ال�سلمة� ،إن �سعيد احلم�ضوين �أ�صبح الآن �رضورة ي�شعر بكل هذا وهو منطلق عرب احلقول الباهتة النائمة يف �آخر الليل.. مكملة ..بل �أ�سا�سية ،للمدفع ،وعندما يتحدث النا�س عن �سعيد ،كانوا وو�صل �إىل حيث كان الر�شا�ش يتكئ كالطفل امليت على الأغ�صان ي�شعرون �أنه �أداة من �أدوات املدفع املعقدة� ..شيء كحبل الر�صا�ص، الياب�سة ،كل �شيء �ساكن� ،إال طلقات البنادق الهزيلة ،حتاول عبث ًا كقائمتي املدفع ..كاملا�سورة :كل متما�سك ال تنف�صل �أطرافه عن الوقوف يف وجه الهجوم� ..إما املدفع� ..إما جهنم.. بع�ضها البع�ض .بل و�أكرث من ذلك ،لقد �صار يربط �سعيد احلم�ضوين وه ّز �سعيد احلم�ضوين ر�أ�سه وك�أنه يوا�سي نف�سه مب�صاب ابنه ،ثم حياته نف�سها ربط ًا �شديداً بوجود املدفع .كان املدفع يعني بالن�سبة فكر � :أن ال بد من �إجراء ..البد� ..شيء قوي كالكالبة يجب �أن مي�سك له �شعوراً هادئ ًا بالطم�أنينة� ،شعوراً يوحي باملنعة :فهو دائم التفكري الفوهة الهاربة �إىل بطن املدفع� ..شيء قوي.. باملدفع ،دائم االعتناء به ،تكاد ال تراه �إال وهو يدرب �شباب القرية -ا�سمع� ..س�أ�شد املا�سورة �إىل بطن املدفع بكفي .وحاول �أن تطلق.. على ا�ستعماله ،ويدلهم يف نهاية التدريب على املكان الذي و�ضع فيه ال يوجد �أية دقيقة لت�ضيع يف كالم ..دعنا جنرب، خرقة مل�سح املدفع ،هذا املكان الذي �سي�صري –فيما بعد – معتاداً. -لكن.. ومع مرور الأيام بد�أ �سعيد احلم�ضوين يتغري ..لقد تبدل لونه عن ذي � -أطلق! قبل .وبدا ك�أنه ي�ضمر �شيئ ًا ف�شيئ ًا ،و�أح�س �شباب ال�سلمة �أن �سعيد � -سريانا اليهود و�أنت فوق احلفرة. احلم�ضوين �صار يبدو �أكرب من ذي قبل ،و�أنه �صار يفقد هذه احلركة � -أطلق! احلية يف وجهه ويف �صوته� ..إنه �صامت الآن� ،صامت �إىل حد يخيل ّ � -ستحرق كفيك بلهب الر�صا�ص.. للإن�سان معه �أنه ن�سي كيف كان يتكلم النا�س ،و�صار �شيئ ًا م�ألوف ًا � -أطلق� ..أطلق!. �أن يجده النا�س منطلق ًا �إىل جنوب ال�سلمة ،حيث ركز املدفع ،ليجل�س وبد�أ املدفع يهدر ب�صوته املتتابع الثقيل ،ومع �صوته املحبوب، وحيداً بقربه �إىل الع�شية. �شعر �سعيد احلم�ضوين بنف�سيته التي تغذت طوي ًال بالثورة والدم والقتال هذا الرجل اجلبار ..الهادئ ..الثائر ..هل كان يعتقد �إن�سان �أنه يف اجلبال� ،شعر ب�أنها النهاية ..نهاية تاق �إليها طوي ًال وها هي ذي �سريجتف كذرة من القطن املندوف على قو�س املنجد؟ لقد فتحوا عليه تتقدم �إليه بت�ؤدة ،كم هو ب�شع املوت ..وكم هو جميل �أن يختار الإن�سان باب داره وال�صباح يو�شك �أن ينبلج ،وت�ضاخمت �أمامه كتلة �سوداء، القدر الذي يريد ..و�سمع �صوته من خالل دقات الر�صا�ص: و�رضبت الأر�ض وبرز منها �صوت �أحد رجاله ،يدور كالدوامة ،ليبتلع 47 46 املدفع وعلى �صوت الطلقات املتقطعة بانتظام وعنف� ..أح�س �سعيد -ا�سمع �أريد �أن �أو�صيك و�صية هامة.. احلم�ضوين ب�أ�شياء كثرية ..ك�أنها ماليني الإبر تدخل يف �رشايينه -وعاد ي�صيخ �إىل املدفع وا�ستخل�ص من �صوت الر�صا�ص ثقة فت�سلبه ما تبقى من دمه ،ثم �شعر ب�أطرافه جميعها تنكم�ش ك�أنها ورقة جديدة ليتابع وهو يحاول �أن مي�ضغ �أمله: جافة يف نهاية ال�صيف ..وبجهد �رش�س حاول �أن يرفع ر�أ�سه لي�شم -قرب قرية (�أبو كبري) �أبعد منها قلي ًال ،يوجد م�ست�شفى لل�سل.. احلياة� ،إال �أنه وجد نف�سه فج�أة يف تنور من ذلك النوع الذي يكرث ..يف عرفته؟ح�سن ًا! يل هناك مبلغ جيد من املال ،قالوا يل� ..أن �أرجع لأقب�ضه ال�سلمة ،والذي عا�ش �إىل جواره فرتات طويلة من �صباه ،وجد نف�سه بعد �أن يفح�صوا الدم� ..أنا مت�أكد �أنه ..دم جيد ..يف كل مرة يقولون يف ذلك التنور جنب ًا �إىل جنب مع الأرغفة ال�ساخنة حتمر حتت �أل�سنة �إنهم يريدون �أن يفح�صوا الدم ك�أن دم الإن�سان يتغري يف خالل �أ�سبوع اللهب ،ور�أى بعينيه فقاقيع العجني امللتهبة ،تطري عن رغيف املرقوق ون�صف ..ا�سمع� ..إن ثمن املدفع مل ي�سدد كله� ..ستجد ا�سم التاجر يف وتلت�صق على �شفتيه ،و�شعر بيد قا�سية ت�شد ر�أ�سه �إىل �أدنى� ..إىل �أدنى.. داري ..هو من يافا .لقد دفعت ق�سم ًا كبرياً من ثمنه من تربعاتكم .لقد �إىل �أدنى ..في�سمع لفقرات رقبته �صوت ًا منتظم ًا ثقي ًال وهي تتك�رس حتت �أو�شك ثمنه �أن يتم ..هل تعرف �أنهم ي�شرتون الدم مببلغ كبري؟ لو ع�شت ثقل ر�أ�سه ..و�أح�س �أنه فع ًال ال يريد �أن ميوت ،و�أعطته الفكرة دفقة �شهرين فقط؟ �شهرين �آخرين ال�ستطعت �أن �أ�سدد كل ثمنه� ..إنني �أعطيهم �أخرى من احلياة ..فاكت�شف �أن �صوت تك�رس فقرات رقبته هو �صوت دم ًا جيداً ..ثمنه جيد ..خذ ح�سن وح�سني واذهب �إىل ذلك امل�ست�شفى.. الر�صا�ص الذي ينطلق من املدفع الر�شا�ش ،و�شعر مبوا�ساة من نوع �أال تريد �أن يبقى املدفع عندكم� ..إن ح�سن وح�سني ..ولداي ..يعرفان غريب ،موا�ساة ت�شبه تلك التي يراها الوالد يف ولد عا�ش بعد م�رصع كيف يذهبان �إىل هناك ..لقد كانا يذهبان معي يف كل مرة� ..إن دماءنا �أخيه ،فابت�سم باطمئنان ،وخرج من(التنور) ،لكنه �شعر �أنه مل يلم�س جميع ًا جيدة ..جيدة جداً ..الق�ضية ق�ضية احلليب الذي ر�ضعناه.. الأر�ض بقدميه.. ق�ضية� ..أريد �أن �أقول لك �شيئ ًا �آخر� ..إذا تراجع اليهود هذه املرة ..تكون و�شيعته القرية كلها �إىل مقره الأخري� ..أو الأول� ..سيان.. �آخر مرة يهجمون بها من هذه الناحية� ..سيخافون ..فعليكم �أن تنقلوا املدفع �إىل ال�شمال ..لأن الهجوم التايل �سيكون من هناك.. دم�شق 57/8/12 وا�شتد �شعوره بالنار تل�سع كفيه بق�سوة ..و�أح�س �إح�سا�س ًا ملح ًا �أنه لو كان يف �صحته العادية ال�ستطاع �أن يقاوم �أح�سن من الآن ،وراوده �شعور قامت بالندم على �أنه �سلك يف �رشاء املدفع ذلك ال�سبيل ،ولكنه �أح�س �إح�سا�س ًا دافق ًا �أن املدفع طرف �آخر من املو�ضوع ،طرف هام� ..أن وجوده يحافظ على �أهميته قبل �أن ميوت هو ،وبعد �أن ميوت.. ف�أغم�ض عينيه ،وحاول جاهداً �أن يحرر نف�سه من �سجن ذاته كي ين�سى �أمله ..لكنه مل ي�ستطع ..ف�أ�سقط ركبته على الأر�ض يف ثقل.. 49 48 قرار موجز اللحظة التي ي�ستطيع فيها �أن ي�رشع باختيار طريقة م�رشفة مليتة ما.. �إذن ،ف�إن من يدعي �أن عبد اجلبار ُد ِفع دفع ًا لي�شرتك يف ثورة ..ال يعرف احلقيقة مطلق ًا ..فهو قد اختار بنف�سه �أن يذهب ملركز التطوع و�أن يقف �أمام طاولة ال�ضابط الذي يقول ب�صوت ثابت: � -أريد بارودة لأ�ستطيع �أن �أ�شرتك بالثورة.. و�رسعان ما اكت�شف �أن ق�ضية البارودة لي�ست �سهلة باملرة..و�أن عليه هو �أن ي�صطاد بارودة ما بالكيفية التي يريد ..ومن ثم ي�ستطيع �أن ي�شرتك بالثورة.. -ولكنني قد �أموت قبل �أن �أح�صل على بارودة..هكذا قال خانق ًا، ولكنه ما لبث �أن �سكت وهو ي�سمع جواب ًا غريب ًا ،ولكنه �صحيح تقريب ًا: -وهل �أتيت �إىل هنا كي ت�ستمتع ب�صيفية لطيفة ..ثم لتعود �إىل 4 -4قرار موجز دارك ؟ هنا ،فكر �أن فل�سفته تقت�ضي تعدي ًال طفيف ًا� ..إذ �أنه رمبا مات قبل �أن يح�صل على بارودة ،ومل تنق�ض فرتة طويلة جداً كي يتو�صل لقرار كان من هواة الفل�سفة..واحلياة بالن�سبة له هي جمرد نظرية ..لقد موجز جديد« :لي�س املهم �أن ميوت الإن�سان� ،أن يحقق فكرته النبيلة.. بد�أ يتفل�سف منذ كان طف ًال ،ويذكر متام ًا كيف �أوجد لنف�سه �س�ؤا ًال �شغله بل املهم �أن يجد لنف�سه فكرة نبيلة قبل �أن ميوت».. طيلة �أ�سبوع كامل ،واعتربه م�شكلة جديرة بالتفكري العميق :ملاذا وهكذا ا�ستطاع عبد اجلبار �أن ي�ستح�صل على بارودة جديدة تقريب ًا، يلب�س الإن�سان القبعة يف ر�أ�سه واحلذاء يف قدمه ؟ ملاذا ال ي�ضع على أعد ،اذ �أنه كان ت�صور �أو بال�شكل الذي � ّ ّ ومل تكلِّفه جهداً بال�شكل الذي ر�أ�سه حذاء ويلب�س قبعة يف قدمه؟.ملاذا؟ .وفكر مرة �أخرى ب�س�ؤال يتجول خارج « »....بعد معركة حدثت يف ال�صباح ،فوجد جندي ًا ميت ًا جديد :ملاذا ال ي�سري الإن�سان على يديه ورجليه �ش�أن �سائر احليوانات.. «وامليت ال يحتاج لبارودة» ،هكذا قال لنف�سه وهو يقلب اجلثة عن �أال يكون م�سريه ذاك مدعاة لراحة �أكرث؟ بارودة فرن�سية ذات فوهة مدببة. وتو�صل �إال �أن م�ستوى فل�سفته ارتفع مع م�سري الزمن .وتو�صل َّ وبني رفاق املرتا�س عرف عبد اجلبار بـ«الفيل�سوف» ،وجد م�ؤخراً �إىل قرار موجز« :طاملا �أن الإن�سان ُد ِفع ليعي�ش دون �أن ي�ؤخذ املنا�ضلون يف فل�سفته منطق ًا �صاحل ًا لتربير الأمور التي حتدث ..كان ر�أيه بذلك ،فلماذا ال يختار هو وحده نهايته؟» .ومن هذا القرار املوجز ي�رسه �أنه يكربهم قلي ًال و�أنه ي�ستطيعمعظم الثوار من ال�شباب ،وكان ّ تو�صل �إىل قرار �أكرث �إيجازاً« :املوت هو خال�صة احلياة». ّ در�سهم قراره املوجز اجلديد ب�ش�أن املوت. لي ِّ �أن يجمعهم بعد كل معركة ُ وهكذا ،تو�صل �إىل ا�ستقرار دعاه بنهاية املطاف ..و�أخذ ينتظر 51 50 قرار موجز �أخرياً �إىل فكرة اعتربها ،بينه وبني �أعوانه املخل�صني فكرة ذكية ..بينما وبعد كل قتيل ،كانت الفل�سفة تتطور وتتغري ..ففي ليلة مظلمة مات عدها عبداجلبار ت�رصف ًا مغروراً �آخر ينتج يف العادة عن اخلوف... َّ فالح �أمي ..وقبل �أن ي�سقط فوق الرتا�س �شتم « ».....ورجال « ..».....وفكر قال له ال�ضابط: عبد اجلبار بكلمة ت�صلح لت�أبني ال�شهيد ،ف�إذا بالكلمة ت�صبح قراره � -ست�سري �أمامنا �إىل مرتا�سكم امللعون ...و�ستعلن لرفاقك املجانني املوجز اجلديد �«:إن الفكرة النبيلة ال حتتاج غالب ًا للفهم ..بل حتتاج �أنك �أح�رضت معك عدداً جديداً من الثوار ..ثم �سيكمل جنودي بقية للإح�سا�س!» وبعد ليلة واحدة مات �شاب كان قد خرج من املرتا�س الق�صة... وهجم بال�سكني على جندي كان يزحف قرب اجلدار ،و�أطلقت النار عليه -و�أنا؟ وهو يف طريق عودته �إىل املرتا�س ..وقال عبداجلبار «�إن ال�شجاعة هي مكرم ًا� ..أو �ستموت كالكلب �إن حاولت خيانتنا..� -ستعي�ش مع َّززاً َّ مقيا�س الإخال�ص »..وكان عبداجلبار بالذات �شجاع ًا ..فلقد طلب منه حد ذاتها ميتة وقال عبد اجلبار يف ذات نف�سه «�إن اخليانة يف ّ ال�ضابط ،وكان قد تو�صل �أخرياً �إىل �إيجاد بذلة ع�سكرية مالئمة� ،أن حقرية». يذهب للميناء كي يرى ماذا يجري هناك ،وقال له �إن منظر وجهه و�أمام �صفني من اجلنود �سار عبداجلبار مرفوع اجلبني ،وفوهة الهادئ احلزين ال يثري الريبة يف قلوب اخلائفني.. مدفع ر�شا�ش تنخر خا�رصته ..وقبل �أن ي�صل �إىل املرتا�س بقليل �سمع و�سار عبداجلبار يف ال�شوارع بال �سالح ،وو�صل للميناء وجتول ما يفح يف الظالم: �صوت ال�ضابط املبحوح ّ التجول ،ثم قفل عائداً �إىل مرتا�سه.. ُّ �شاء له -هيا.. �إن الأمور جتري عك�س ما يفرت�ض املرء ..فلقد عرفه واحد ممن مل يكن عبد اجلبار خائف ًا �إذ �إن رفاق الرتا�س قالوا �إن �صوته كان ا�شرتكوا مرة يف الهجوم ..وقب�ض عليه ..و�ساقه �إىل حيث قال له �ضابط ثابت ًا قوي ًا عندما �سمعوه ي�صيح : خائف بعد �أن �صفعه: ..-لقد �أح�رضت لكم خم�سني جنديا. � -إنك ثائر... *** -نعم... مل يكن عبداجلبار قد مات ،بعد ،عندما و�صل رفاقه اليه ملقى بني -ملعون.. جمة �سمع �أحدهم �صوته ميلي قراره املوجز جثث اجلنود ..وب�صعوبة ّ -كال! الأخري: ومل ين�س عبد اجلبار وهو حتت ال�رضب الذي ال يرحم �أن ي�ضع قراراً «لي�س املهم �أن ميوت �أحدنا ..املهم �أن ت�ستمروا».. موجزاً جديداً �« :إن �رضب ال�سجني هو تعبري مغرور عن اخلوف»... ثم مات. و�شعر �إثر ذلك القرار ،ب�شيء من االرتياح.. دم�شق 1958/7/21 ولكن الأمور جرت ،من ثم ،على نحو مغاير.فلقد تو�صل ال�ضابط 53 52 ال�صغري يذهب �إىل اجلحيم يف ذلك الزمن – دعني �أو ًال �أقل لك �إنه مل يكن زمن ا�شتباك باملعنى يخيل �إليك ،ك ّال مل تكن ثمة حرب حقيقية .مل تكن ثمة �أي حرب على الذي ّ الإطالق .كل ما يف الأمر �أننا كنا ثمانية ع�رش �شخ�ص ًا يف بيت واحد من جميع الأجيال التي ميكن �أن تتو ّفر يف وقت واحد .مل يكن �أي واحد م ّنا قد همنا جنح بعد يف احل�صول على عمل ،وكان اجلوع -الذي ت�سمع عنه َّ - اليومي .ذلك �أ�سميه زمن اال�شتباك� .أنت تعلم .ال فرق على الإطالق. كنا نقاتل من �أجل الأكل ،ثم نتقاتل لنوزعه فيما بيننا ،ثم نتقاتل جدي جريدته املطوية باعتناء بعد ذلك .ثم يف �أية حلظة �سكون ُيخرج ّ من بني مالب�سه ناظراً �إىل اجلميع بعينيه ال�صغريتني املتح ّفزتني، معنى ذلك �أن خم�سة قرو�ش قد �رسقت من جيب ما � -إذا كان فيه هناك متم�سك ًا ّ جدي خم�سة قرو�ش � -أو من مكان ما .و�أن �شجاراً �سيقع .ويظل ّ يت�صدى للأ�صوات ب�سكون ال�شيخ الذي عا�ش وقت ًا كافي ًا ّ باجلريدة وهو .55ال�صغري يذهب �إىل املخيم وال�شجار دون �أن يرى فيها ما ي�ستحق لال�ستماع �إىل كل هذا ال�ضجيج ّ اجلواب �أو االهتمام ..وحني تهد�أ الأ�صوات مييل �أقرب ال�صبيان �إليه (ذلك كان ذلك زمن احلرب .احلرب؟ كال ،اال�شتباك ذاته ..االلتحام املتوا�صل �أنه مل يكن يثق بالبنات) ويدفع له ال�صحيفة وهو مي�سك طرفها ،كي ال بالعدو لأنه �أثناء احلرب قد تهب ن�سمة �سالم يلتقط فيها املقاتل �أنفا�سه. تخطف. راحة .هدنة� .إجازة تقهقر� .أما يف اال�شتباك ف�إنه دائم ًا على بعد طلقة. وكنت مع ع�صام يف العا�رشة – كان �أ�ضخم مني قلي ًال كما هو الآن.. متر ب�أعجوبة بني طلقتني ،وهذا ما كان ،كما قلت لك ،زمن �أنت دائم ًا ّ وكان يعترب نف�سه زعيم �إخوته �أبناء عمتي -كما كنت �أعترب نف�سي زعيم اال�شتباك امل�ستمر. عمتي �أن يجدا لنا �إخوتي ..وبعد حماوالت عديدة ا�ستطاع والدي وزوج ّ يحب كنت �أ�سكن مع �سبعة �أخوة كلهم ذكور �شديدو املرا�س ،و�أب ال ّ مهنة يومية :نحمل ال�سلة الكبرية مع ًا ون�سري حوايل �ساعة وربع ،حتى زوجته رمبا لأنها �أجنبت له زمن اال�شتباك ثمانية �أطفال .وكانت عمتنا ن�صل �إىل �سوق اخل�ضار بعد الع�رص بقليل .يف ذلك الوقت �أنت ال تعرف وجدنا العجوز الذي كانوزوجها و�أوالدها اخلم�سة ي�سكنون معنا �أي�ض ًاّ ، كيف يكون �سوق اخل�ضار :تكون الدكاكني قد بد�أت ب�إغالق �أبوابها و�آخر �إذا ما عرث على خم�سة قرو�ش على الطاولة �أو يف جيب �أحد ال�رساويل ال�شاحنات التي تعرب مبا تب ّقى ،ت�ستعد ملغادرة ذلك ال�شارع املزحوم. الكثرية املع ّلقة م�ضى دون تردد وا�شرتى جريدة ،ومل يكن يعرف ،كما هينة و�صعبة يف �آن واحد .فقد كان وكانت مهمتنا -ع�صام و�أنا ّ - تعلم ،القراءة ،وهكذا كان م�ضطراً لالعرتاف دائم ًا مبا اقرتف كي يقر�أ يتعينّ علينا �أن جند ما نعبئ به �س َّلتنا� :أمام الدكاكني .وراء ال�سيارات. �أحدنا على م�سمعه الثقيلني �آخر الأخبار. 55 54 ال�صغري يذهب �إىل اجلحيم وال�سيارات واحلافالت وواجهات الدكاكني دون �أن نتبادل كلمة (لأن املعني يف قيلولة �أو داخل حانوته. ّ وفوق املفار�ش �أي�ض ًا �إذا كان ال�سلة كانت ثقيلة حق ًا وكنا نحن -االثنني -من�رصفني متام ًا �إىل مير املقاتل�أقول لك �إنه كان زمن اال�شتباك� :أنت ال تعرف كيف ّ الأكل) وفج�أة.. بني طلقتني طوال نهاره .كان ع�صام يندفع كال�سهم ليخطف ر�أ�س ال .هذا �شيء ال يو�صف .ال ميكن و�صفه :ك�أنك على ن�صل �سكني من ملفوف مم ّزق �أو حزمة ب�صل ،ورمبا تفاحة من بني عجالت ال�شاحنة عدوك و�أنت دون �سالح و�إذا بك يف اللحظة ذاتها جتل�س يف ح�ضن �أمك.. أت�صدى لل�شياطني � -أي بقيةللتحرك .وكنت �أنا بدوري � ّ ّ وهي تت� ّأهب دعني �أقل لك ما حدث :ك ّنا نحمل ال�س ّلة كما قلت لك ،وكان �رشطي الأطفال� -إذا ما حاولوا تناول برتقالة �شاهدتها يف الوحل قبلهم .وكنا يقف يف منت�صف الطريق ،وكان ال�شارع مبت ًال ،وكنا تقريب ًا دون �أحذية. نعمل طوال الع�رص :نت�شاجر ع�صام و�أنا من جهة ،مع بقية الأطفال �أو رمبا كنت �أنظر �إىل حذاء ال�رشطي الثقيل وال�سميك حني �شهدتها فج�أة �أ�صحاب الدكاكني �أو ال�سائقني �أو رجال ال�رشطة �أحيان ًا ،ثم �أت�شاجر مع هناك ،كان طرفها حتت حذائه� ،أي كنت بعيداً حوايل �ستة �أمتار ولكنني ع�صام فيما تب ّقى من الوقت. عرفت ،رمبا من لونها �أنها �أكرث من لرية واحدة. كان ذلك زمن اال�شتباك� .أقول هذا لأنك ال تعرف� :إن العامل وقتئذ طيب� .أنا ال يتحدثون عن الغريزةّ .نحن يف مثل هذه احلاالت ال نف ّكرّ . يق ّل على ر�أ�سه ،ال �أحد يطالبه بالف�ضيلة� .سيبدو م�ضحك ًا من يفعل� ..أن �أعرف ما �إذا كان لون الأوراق املالية �شيئ ًا له عالقة بالغريزة .له عالقة تعي�ش كيفما كان وب�أية و�سيلة هو انت�صار مرموق للف�ضيلة .ح�سن ًا .حني بتلك القوة الوح�شية ،املجرمة ،القادرة على اخلنق يف حلظة ،املوجودة ميوت املرء متوت الف�ضيلة �أي�ض ًا� .ألي�س كذلك؟ �إذن دعنا نتفق ب�أنه يف يف �أعماق كل منا .ولكن ما �أعرفه هو �أن املرء يف زمن اال�شتباك ال زمن اال�شتباك يكون من مهمتك �أن حتقق الف�ضيلة الأوىل� ،أي �أن حتتفظ ينبغي له �أن يف ّكر حني يرى ورقة مالية حتت حذاء ال�رشطي وهو يحمل حي ًا .وفيما عدا ذلك ي�أتي ثاني ًا .ولأنك يف ا�شتباك م�ستمر ف�إنه ال بنف�سك ّ �سلة من اخل�ضار الفا�سد على بعد �ستة �أمتار .وهذا ما فعلته� :ألقيت ببقايا يوجد ثاني ًا� :أنت دائم ًا ال تنتهي من �أو ًال. التفاحة وتركت ال�سلة يف اللحظة ذاتها .وال �شك �أن ع�صام متايل فج�أة وكان يتعينّ علينا �أن نحمل ال�س ّلة مع ًا حني متتلئ ومن�ضي عائدين حتت ثقل ال�سلة التي تركت يف يده ولكن كان قد �شاهدها بعدي بلحظة �إىل البيت :ذلك كان طعامنا جميع ًا لليوم التايل ..بالطبع كنا �أنا وع�صام واحدة� .إ ّال �أنني بالطبع كنت قد اندفعت حتت وط�أة تلك القوة املجهولة متفقني على �أن ن�أكل �أجود ما يف ال�س ّلة على الطريق .ذلك اتفاق مل التي جترب وحيد القرون على هجوم �أعمى ،غايته �آخر الأر�ض ،ونطحت نناق�شه �أبداً ،مل نعلن عنه �أبداً .ولكنه كان يحدث وحده .ذلك �أننا كنا مع ًا �ساقي ال�رشطي بكتفي فرتاجع مذعوراً .وكان توازين �أنا الآخر قد يف زمن اال�شتباك. اخت ّل .ولكنني مل �أقع على الأر�ض -ويف تلك اللحظة التي يح�سب فيها وكان ال�شتاء �شديد الق�سوة ذلك العام امللعون ،وك ّنا نحمل �س ّلة ثقيلة الأغبياء �أن ال�شيء ميكن له �أن يحدث � -شاهدتها :كانت خم�س لريات .مل حق ًا( ،هذا �شيء ال �أن�ساه ،ك�أنك وقعت �أثناء املعركة يف خندق ف�إذا به �أ�شاهدها فح�سب بل التقطتها وا�ستكملت �سقوطي� .إ ّال �أنني وقفت ب�أ�رسع يحوي �رسيراً) وكنت �آكل تفاحة ،فقد ك ّنا خرجنا من بوابة ال�سوق و�رسنا مما �سقطت وبد�أت �أرك�ض ب�أ�رسع مما وقفت. يف ال�شارع الرئي�سي .قطعنا ما يقرب من م�سري ع�رش دقائق بني النا�س 57 56 ال�صغري يذهب �إىل اجلحيم ما قيمة ذلك كله �أمام امل�س�ألة احلقيقية الأوىل. وم�ضى العامل ب�أجمعه يرك�ض ورائي� :ص ّفارة ال�رشطي ،و�صوت كان �أبوه يف ّكر ب�شيء �آخر متام ًا :كان م�ستعداً لقبول ن�صف املبلغ حذائه يقرع بالط ال�شارع ورائي متام ًا� .رصاخ ع�صام� ،أجرا�س احلافالت. وكان �أبي يريد الن�صف الآخر لأنني لو جنحت يف االحتفاظ باملبلغ نداء النا�س ..هل كانوا حق ًا ورائي؟ لي�س بو�سعك �أن تقول ولي�س بو�سعي كله ل�صار من حقي وحدي� ،أما �إذا تخ ّليت عن هذا احلق ف�أفقد كل �شيء �أي�ض ًا .لقد عدوت مت�أكداً حتى �صميمي �أن ال �أحد يف كل الكواكب ال�سيارة و�سيتقا�سمون املبلغ. ي�ستطيع �أن مي�سكني ..وبعقل طفل الع�رش �سنوات �سلكت طريق ًا �آخر. ولكنهم مل يكونوا يعرفون حق ًا معنى �أن يكون الطفل مم�سك ًا بخم�س �سيدل ال�رشطي على طريقي .ل�ست �أدري. ّ رمبا لأنني ح�سبت �أن ع�صام لريات يف جيبه زمن اال�شتباك ..وقد قلت لهم جميع ًا بلهجة حملت لأول مل �ألتفت .كنت �أرك�ض وال �أذكر �أنني تعبت ..كنت جندي ًا هرب من ميدان مرة يف حياتي طابع التهديد برتك البيت و�إىل الأبد� :إن اخلم�س لريات حرب �أجرب على خو�ضها ولي�س �أمامه �إ ّال �أن يظل يعدو والعامل وراء يل وحدي. كعبي حذائه. َ جن جنونهم� ،ضاع رابط الدم فوقفوا جميع ًا و�أنت تعرف ال �شكّ : وو�صلت �إىل البيت بعد الغروب ،وحني فتح يل الباب �شهدت ما كنت �ضدي .لقد �أنذروين �أو ًال .ولكنني كنت م�ستعداً ملا هو �أكرث من ذلك ثم �أ�شعر يف �أعماقي �أنني �س�أ�شهده :كان ال�سبعة ع�رش خملوق ًا يف البيت بد�أوا ي�رضبونني .وكان بو�سعي بالطبع �أن �أدافع عن نف�سي ،ولكن لأنني در�سوين ب�رسعة ،ولكن بدقة ،حني وقفت يف حلق ينتظرونني .وقد ّ �أردت �أن �أحتفظ بكفي داخل جيبي مطبقة على اخلم�س لريات فقد كان الباب �أبادلهم النظر:كفي مطبقة على اخلم�س لريات يف جيبي ،وقدماي جدي على تفرج ّ من الع�سري حق ًا �أن �أجتنب ال�رضبات املحكمة .وقد ّ ثابتتان يف الأر�ض. املعركة با�ستثناء بادئ الأمر ،ثم ملا بد�أت املعركة تفقد طرافتها قام كان ع�صام يقف بني �أمه و�أبيه ،وكان غا�ضب ًا .ال �شك �أن �شجاراً قد فوقف �أمامهم ،وبذلك ي�سرَّ يل �أن �ألت�صق به .اقرتح ت�سوية .قال �إن الكبار وقع بني العائلتني قبل مقدمي .وا�ستنجدت بجدي الذي كان جال�س ًا يف ال حق لهم باملبلغ .ولكن من واجبي �أن �آخذ كل �أطفال البيت ذات يوم يل ب�إعجاب :رج ًال كان الركن ملتحف ًا بعباءته البنية النظيفة ينظر �إ ّ �صحو �إىل حيث ن�رصف جميع ًا مبلغ اخلم�س لريات كما ن�شاء. حكيم ًا كان .رج ًال حقيقي ًا يعرف كيف ينبغي له �أن ينظر �إىل الدنيا. تقدمت �إىل الأمام معتزم ًا الرف�ض� ،إ ّال �أنني يف اللحظة ذاتهاعندها ّ وكان كل ما يريده من اخلم�س لريات :جريدة كبرية هذه املرة. �شهدت يف عينيه ما �أم�سكني .مل �أفهم بال�ضبط �آنذاك ما كان يف عينيه، وانتظرت ال�شجار بفارغ ال�صرب .كان ع�صام بالطبع قد كذب :قال ولكنني �شعرت فقط �أنه كان يكذب و�أنه كان يرجوين �أن �أ�صمت. لهم �إنه هو الذي وجد اخلم�س لريات و�أنني �أخذتها منه بالقوة .لي�س ذلك �أنت تعرف �أن طفل الع�رش �سنوات – زمن اال�شتباك – ال ي�ستطيع �أن فقط ،بل �أجربته على حمل ال�سلة الثقيلة وحده طوال امل�سافة املنهكة: جدي. يفهم الأمور (�إذا كان ثمة حاجة لفهمها) كما ي�ستطيع عجوز مثل ّ �أمل �أقل لك �إنه زمن اال�شتباك؟ مل يكن �أي واحد منا مهتم ًا فقط بل كان ولكن هذا هو ما ح�صل .كان يريد جريدته رمبا كل يوم ملدة �أ�سبوع – مت�أكداً من �أن �أحداً مل يهتم باحلقيقة .لي�س ذلك فقط بل �إنه ارت�ضى �أن وكان يهمه �أن ير�ضيني ب�أي ثمن. يذل نف�سه ويعلن رمبا للمرة الأوىل �أنني �رضبته و�أنني �أقوى منه ..ولكن ّ 59 58 ال�صغري يذهب �إىل اجلحيم وقد ن�سي ع�صام الق�صة �أي�ض ًا .كان يف �أعماقه – كطفل �صعب املرا�س- وهكذا اتفقنا ذلك امل�ساء .ولكنني كنت �أعرف �أن مهمتي مل تنته. يفهم متام ًا ما حدث .وا�صلنا رحالتنا اليومية �إىل �سوق اخل�ضار ،كنا علي �أن فعلي �أن �أحمي اللريات اخلم�س كل حلظات الليل والنهار .ثم ّ ّ نت�شاجر �أقل من �أي وقت م�ضى ونتحادث قلي ًال .يبدو �أن �شيئ ًا ما – وعلي �أي�ض ًا �أن �أواجه حماوالت �إقناع وتغرير لن ّ أطفال. ل ا بقية أماطل � جداراً جمهو ًال ارتفع فج�أة بينه – هو الذي ما زال يف اال�شتباك – و�أنا تكف عنها �أمي .قالت يل ذلك امل�ساء �أن اللريات اخلم�س ت�شرتي رطلني الذي تن ّف�ست – لي�س يدري كم – هواء �آخر. من اللحم� ،أو قمي�ص ًا جديداً يل� ،أو دواء حني تقت�ضي احلاجة� ،أو كتاب ًا �إذا و�أذكر �أنني احتفظت باخلم�س لريات يف جيبي طوال اخلم�سة �أ�سابيع: ما ف ّكروا ب�إر�سايل �إىل مدر�سة جمانية يف ال�صيف القادم ...ولكن ما نفع عد خروج ًا الئق ًا لها يف زمن اال�شتباك� .إ ّال �أن كل �شيء حني يقرتب كنت �أُ ّ الكالم؟ ك�أنها كانت تطلب مني و�أنا �أعرب بني طلقتني �أن �أنظف حذائي. من التنفيذ كان يبدو وك�أنه ج�رس للعودة �إىل زمن اال�شتباك ولي�س ومل �أكن �أعرف بال�ضبط ماذا كنت �أنوي �أن �أفعل .ولكنني طوال للخروج منه. الأ�سبوع الذي جاء بعد ذلك جنحت يف مماطلة الأطفال ،ب�آالف من كيف ت�ستطيع �أن تفهم ذلك؟ كان بقاء اللريات اخلم�س معي �شيئ ًا الكذبات التي كانوا يعرفون �أنها كذلك ولكنهم مل يقولوا �إطالق ًا �أنها يفوق ا�ستعمالها .كانت تبدو يف جيبي وك�أنها مفتاح �أمتلكه يف راحتي �أكاذيب .مل تكن الف�ضيلة هنا� .أنت تعلم .كانت م�س�ألة �أخرى تدور حول و�أ�ستطيع يف �أية حلظة �أن �أفتح باب اخلروج و�أم�ضي .ولكن حني كنت الف�ضيلة الوحيدة �آنذاك :اخلم�س لريات. أ�شم وراء الباب زمن ا�شتباك �آخر� .أبعد مدى .ك�أنه �أقرتب من القفل كنت � ّ جدي كان يفهم الأمور ،وكان يريد جريدته ثمن ًا معاد ًال لدوره ولكن ّ عودة �إىل بداية الطريق من جديد. يف الق�صة ،وحني م�ضى الأ�سبوع بد�أ يتململ .لقد �شعر (من امل�ؤكد �أنه وما بقي لي�س مهم ًا :ذات يوم م�ضيت مع ع�صام �إىل ال�سوق وقد �شعر ،ذلك لأن رج ًال عجوزاً مثله ال ميكن �أن تفوته تلك احلقيقة) �أنني تتحرك ّ اندفعت لأخطف حزمة من ال�سلق كانت �أمام عجالت �شاحنة لن �أ�شرتي له اجلريدة ،و�أنه فقد فر�صته ،ولكنه مل يكن ميتلك �أية و�سيلة ببطء .ويف اللحظة الأخرية زلقت و�سقطت حتت ال�شاحنة .كان حظي ال�سرتدادها. جيداً فلم متر العجالت فوق �ساقي� ،إمنا تو ّقفت بال�ضبط بعد مالم�ستها. مرت ع�رشة �أيام �أخرى اعتقد اجلميع �أنني �رصفت اللريات وحني ّ وعلى �أية حال �صحوت من �إغمائي يف امل�ست�شفى .وكان �أول ما فعلته – جدياخلم�س ،و�أن يدي يف جيبي تقب�ض على فراغ .على خديعة .ولكن ّ تخمن – �أن تف ّقدت اخلم�س لريات� .إ ّال �أنها مل تكن هناك. ما ال �شك ّ كان يعرف �أن اللريات اخلم�س ما تزال يف جيبي .ويف الواقع قام ذات �أعتقد �أن ع�صام هو الذي �أخذها حني حملوه معي يف ال�سيارة �إىل ليلة مبحاولة ل�سحبها من جيبي و�أنا م�ستغرق يف النوم( ،كنت �أنام امل�ست�شفى .ولكنه مل يقل و�أنا مل �أ�س�أل .كنا نتبادل النظر فقط ونفهم. مبالب�سي) �إ ّال �أنني �صحوت فرتاجع �إىل فرا�شه ونام دومنا كلمة. ال ،مل �أكن غا�ضب ًا لأنه كان ملهي ًا و�أنا �أنزف دمي ب�أخذ اللريات اخلم�س. جدي حزين ًا لأنه مل يح�صل على قلت لك� .إنه زمن اال�شتباك .كان ّ كنت حزين ًا فقط لأنني فقدتها. جريدة ،ولي�س لأنني نكثت بوعد مل ُي َّت َفق عليه .كان يفهم زمن اال�شتباك، و�أنت لن تفهم .ذلك كان يف زمن اال�شتباك. ولذلك مل يلمني طوال ال�سنتني اللتني عا�شهما بعد ذلك على ما فعلته. 61 60 غسان الشخص والنص دراج درا�سة :د.في�صل ّ 63 62 �شهوة احلياة ومنازلة املوت توليد جن�س جديد من الب�رشُ .تخت�رص حياة غ�سان ،رمبا ،يف جملة غا�ضبة وردت يف م�رسحيته« :الباب» تقول :ي�ستطيع الإن�سان الذي فاته اختيار ميالده �أن يختار موته .ولهذا انتهى مم ّزق الأو�صال ،بعد �أن �شطرته قنبلة موقوته �إىل ن�صفني 8يوليو/متوز .1972 � -1إن�سان حمل ذاكرة جريحة عمان ،وعلى �رشفة ك�أنها نافذة و�سجن مع ًا ،ويف ذات م�ساء يف ّ �صحبة ال�صديق املبدع مريد الربغوثي� ،س�ألنا الراحل د� .إح�سان عبا�س، الذي عرف غ�سان طوي ًال :ماذا تذكر من هذا الإن�سان الذي غادر قبل �شهوة احلياة ومنازلة املوت الأوان؟ قال� :أذكر ف�ضوله �إىل ما ال يعرف ،وقلقه الذي ال ميكن حجبه، وتوزعه على �أكرث من مكان ووظيفة ،و�سعيه املرهق �إىل «مت ّلك اللحظة»، والت�رصف ال�سديد بالوقت .كان يف حديث عبا�س �شيء من تلك البهجة، ّ كان يف حياته غربة مثرية :ولد غ�سان كنفاين يف حيفا � 9إبريل/ التي حت�رض عند ا�ستدعاء ذكرى �إن�سان عزيز ال ي�شبه غريه. ني�سان عام ،1936خالل الثورة الفل�سطينية الكربى ،واغتاله الإ�رسائيليون بعد �ستة وثالثني عام ًا ،حني كان الفل�سطينيون يحاولون تابع د� .إح�سان :جاءين ،ذات يوم ،و�أعطاين خمطوطة «رجال يف ثورة جديدة ،وخ ّلف وراءه كتابة متعددة الأجنا�س ،ب�شرّ ت بالثورة، ال�شم�س» ،وانتظر ر�أيي .جاءين الهث ًا ،بعد يومني ،وكان يف جوابي ومايزت بني ب�رش حقيقيني و�آخرين �سمتهم العقم والبالدة .وكان بع�ض الت�سا�ؤل .قال غ�سان مبا�رشة :الر�سالة مل ت�صل .وعاد بعد يومني يف حياته الق�صرية املديدة متعدداً :احرتف ال�صحافة وعالج الأدب، و�أعطاين املخطوطة من جديد ،وكان يف جوابي ر�ضا �رصيح ،قال عندئذ: وغدا قائداً �سيا�سي ًا ،واقرتب من «العمليات الع�سكرية» ،احلاملة بوطن الر�سالة و�صلت ،و�س�أل قبل �أن يخرج :ما الذي ا�ستوقفك يف الر�سالة؟ م�ستعاد. قلت� :شخ�صية �أبي اخليزران� ،ضحك وقال� :إنه ال يزال بيننا .غري �أن ما ا�ستوقف الناقد الراحل كانت كلمة «الر�سالة» ،التي ا�ستعا�ض بها غ�سان جعل هذا من حياته مر�آة مل�سار �شعبه ،ومن كتاباته �شهادة على عن كلمة :الرواية ،كما لو كان ي�ؤدي واجب ًا ،ويريد �أن ي�ؤديه كام ًال بال والتمرد واملقاومة .غ�سان من ه�ؤالء احلاملني، ّ معنى املنفى واللجوء، نق�صان. الذين يعملون على تق�صري امل�سافة بني الفعل والكلمة ،ويتطلعون �إىل 65 64 �شهوة احلياة ومنازلة املوت يف روحه غ�ضب ًا حارق ًا. �س�ألنا الناقد الراحل :من �أين جاء بفكرة الرواية؟ قال� :سمع عن حكاية ت�شبهها ،مو�ضوعها تهريب «الالجئني» الباحثني عن عمل �إىل يتذكر الراحل اجلميل ح�سني الربغوثي يف كتابه البديع« :ال�ضوء الكويت .لكن غ�سان �أ�ضاف �إىل احلكاية غ�ضبه ال�شديد :كان يف كلمة مر ببريوت ،و�س�أل يف مكان ما عن �أحد �أقربائه ،جاءه الأزرق»� ،أنه ّ الالجئ ما يجرح كرامته ،وكان يف �أحوال املخيمات ما ي�ستفز روحه، اجلواب« :يف هذه البناية يف واحد فل�سطيني» .مل يكن الفل�سطيني يتحدثون عن «الالجئني» وين�سون وكان غا�ضب ًا على ه�ؤالء العرب الذين ّ فل�سطينيته �إن�سان ًا نكرة، ّ املجهول اال�سم �إ ّال غ�سان كنفاين ،الذي �صيرّ ته الق�ضية الفل�سطينية. ال ا�سم له ،وال يحق له �أن ميتلك ا�سم ًا ،كبقية الب�رش .رمبا ما عا�شه غ�سان هو الذي جعله «ي�ستعجل» العودة �إىل الوطن ،وخلق منه �إن�سان ًا ،ي�أخذ �س�ألناه ،وهو يت�أمل ال�رشفة ال�سجن ،ماذا يتبقى من غ�سان بعد كل نف�سه بال�شدة ،ال يعبث بالوقت ويكره الت�أين والت�سويف ،كما لو كان هذه ال�سنني؟ �أجاب :قلقه الأدبي ،الباحث عن �شكل «يقول كل �شيء اللجوء �صياداً والالجئ طريدة. ردد �أمامي دفعة واحدة ،وير�سم الواقع من دون زيادة �أو نق�صان» ،كما ّ ميز بجدية عالية� :أهم ما ّّ �أكرث من مرة .وا�ستدرك الناقد الكبري وقال كان ي�أتي �إىل مركز الأبحاث ،يف بريوت ،يف متام الثامنة �صباح ًا، غ�سان هو املثقف الذي كان فيه ،مل يكن ي�ساوم ومل يعرف �أن�صاف وا�ضح الأناقة كموظف من موظفي البنوك� ،رسيع اخلطوة مندفع ًا �إىل احللول ،وكان يعمل على حذف امل�سافة بني القول واملعي�ش ،حماو ًال �أن الأمام ،وعلى وجهه رذاذ من الراحة والر�ضا .كان هذا هو الراحل د� .أني�س يرم يعي�ش خارج الكتابة ما قاله داخلها .كان يف ات�ساقه الأخالقي مّ �صايغ ،مدير املركز ،الذي عرف غ�سان طوي ًال ،وطلب مني ،ذات مرة، «فل�سطينيته املتهمة» ،ويرد على ه�ؤالء الذين اتهموا الفل�سطينيني ببيع درا�سة عن غ�سان ،حني عملت باحث ًا متفرغ ًا ملدة عامني تقريب ًا .حني �أر�ضهم والتط ّفل على موائد الآخرين. بد�أ الكالم قال :جمعت بيني وبني غ�سان �أ�سباب كثرية� ،أولها و�أكرثها عدوك» ،الذي �أواله املركز اهتمام ًا خا�ص ًا .كان �أهمية �شعار« :اعرف ّ يف مطلع ت�سعينيات القرن املا�ضي ،ويف مكتب جملة «الهدف» ، غ�سان مهجو�س ًا مبعرفة كل ما له عالقة بالعدو ال�صهيوين ،بل �إنه قر�أ قال يل الراحل «�أبو ماهر اليماين» ،النقابي الفل�سطيني القدمي ورفيق تاريخ فل�سطني احلديث من وجهة نظر الدمار الذي �أحلقه ال�صهيونيون غ�سان يف اجلبهة ال�شعبية« :كان غ�سان يرى يف اللجوء كابو�س ًا ،ينظر به. �إىل امل�ستقبل ويحن �إىل فل�سطني الثالثينيات ،التي �شهدت ثورة عظيمة قال له د� .أني�س مرة :ما زلت �أنتظر �إ�سهامك يف جمال «اعرف عدوك». مغدورة» .كان يف عالقة غ�سان بفل�سطينه ال�ضائعة بعد �صويف ،عبرّ عنه مل تت�أخر الإجابة طوي ًال ،عاد �إليه بعد �أ�سابيع قليلة و�أعطاه كتابه الرائد يف روايته «العا�شق» ،وكان يف عالقته مبنفاه �رصاخ له طعم الفجيعة. «عن الأدب ال�صهيوين» ،الذي كتب له �أني�س ،الحق ًا ،مقدمة� ،أ�ضاءت ولهذا كان يكره الهدوء والطم�أنينة ،ويرى يف الفل�سطينيني امل�ستكينني معنى :اعرف عدوك. خملوقات بذيئة .كان ،يف احلالني ،يعبرّ عما عا�شه ور�آه واختربه ،و�أيقظ 67 66 �شهوة احلياة ومنازلة املوت احلالني ،عفوي ًا ،يقوم مبا يجب عليه �أن يقوم به ،وكان يف احلالني هناك ،حيث ال ينتظره �أحد .كان الناقد اللبناين حممد دكروب ي�شاك�سه حني �س ّلمه غ�سان املخطوطة �س�أل :د� .أني�س :هل العدو موجود ب�صيغة ويقول له« :م�ستعجل كتري يا غ�سان» ،كان الأخري يجيب :الزمن ال ينتظر، املفرد �أم ب�صيغة اجلمع؟ �أجاب مدير املركز :العدو الرئي�سي يتبعه ووظيفة الكلمة تقرر كل �شيء .كان يعتقد هذا الفل�سطيني ال�شاحب �أن العمالء واملتخ ّلفون واحلمقى ،الذين يعتربون الدرا�سة يف «جامعة غ�ضبه الداخلي قادر ،رمبا ،على تخلي�ص «الكتابة العجلى» من ال�شوائب، رد غ�سان :وهناك كيمربدج» ،كما الأناقة والنظام»« ،عاهة برجوازية»ّ . علواً ،ي�صل الكاتب بقارئه ،وي�صل و�أن وراء �صوت الكتابة �صوت ًا �أكرث ّ املتزعمون الزائفون يف زمن م�ضى ،والذين غيرّ وا لبا�سهم، ِّ «املخاتري»، الكاتب والقارئ مبعركة مزهرة منتظرة .كان غ�سان يكتب من وجهة نظر هذه الأيام ،وظ ّلوا «خماتري» .قال د� .أني�س :ك�شفت كلمة «املخاتري» ،التي القارئ املطلوب ،طارداً الوحدة واملعادالت املجردة ،وكان بعد «الكتابة ا�ستعملها غ�سان ،عن ذاكرة جريحة ال تن�سى املا�ضي ،ذلك �أن بع�ض امل�شرتكة» يجل�س مع روحه ،ويزرع يف ذراعه «�إبرة الأن�سولني» ،التي املخاتري لعب دوراً �سيئ ًا خالل فرتة االنتداب الربيطاين .ومع �أن غ�سان ت�صده متام ًا. ت�صد عنه �آثار مر�ض ال�سكري ،وال ّ خرج من فل�سطني وعمره اثنا ع�رش عام ًا ،فقد كان ي�سرتجع وقائعها بال التبا�س ،بدءاً من الفالح املقاتل ،و�صو ًال �إىل جندي يهودي يعاقب ِ�ص ْبية «اعرف عدوك تعرف ملاذا خرجت �إىل املنفى» ،كان يقول غ�سان، فل�سطينيني ،مروراً بـ «مثقف» يرى يف احلديث مع «الفالح» �أمراً �صعب ًا. «واعرف ذاتك تعرف كيف تعود �إىل الوطن» .كان فيه روح فالح فل�سطيني ولعل االلتفات �إىل املا�ضي ،جتنب ًا للأخطاء التي وقعت فيه ،هو الذي قاتل يف ثورة ،1936قال د� .صايغ ،وكانت يف ذاكرته �أطياف جندي حذف امل�سافة بينه وبني احلا�رض ،ف�أدرجه غ�سان يف ق�ص�صه الق�صرية ورحل �س�ؤال يهودي �أحرق قرى فل�سطينية .حمل �صورة الفالح يف روحهّ ، ورواياته ،وكتب درا�سة ممتازة عن ثورة .1936 اجلندي القاتل �إىل عقله .عرث يف هذين العن�رصين على الإن�سان الق�ضية، الذي يتع ّلم من املقاتلني ويع ّلمهم. حني �أنهى �أني�س �صايغ كالمه عن غ�سان و�شخ�صيته قال� :ساوى غ�سان بني الكتابة وبرنامج «العمل الثوري» ،الذي ال يقبل بالت�أجيل� ،أو حني كنا ندخل مكتب جملة الهدف ،يف كورني�ش املزرعة يف بريوت، بني الكتابة و«املهمة احلزبية» ،حيث املرجع احلزبي هو غ�سان نف�سه، كنا نعرف �أنه هناك .الكل من�رصف �إىل عمله وفرح به ،وبني اجلميع والنقد و«النقد الذاتي» يحددهما هو ال غريه. يقيم وينقد ويو ّزع منظم ،وهو هناك ّ تناف�س نظيف ،ويف اجلو فرح ّ املالحظات ،ف�إن قابلناه قال فرح ًا« :العدد جاهز» .هكذا كان ي�صف ولأنه مرجع ذاته ،وهي حال كل �إن�سان حقيقي ،عطف غ�سان «اعرف الراحل �صابر حمي الدين ،الذي �أ�صبح الحق ًا رئي�س حترير املجلة، مكملة« :اعرف ذاتك» ،التي دفعته �إىل كتابة «�أدبعدوك» على قاعدة ّ �صورة غ�سان ،كما ر�آها� ،أو �سمعها من غريه ،مع ّلق ًا« :كان معنا ومل يكن املقاومة يف فل�سطني املحتلة» .كان ي�شتق الكتابة من ال�رضورة ،في�صبح منا متام ًا :كان معنا يقا�سمنا العمل ،ومل يكن منا متام ًا ،فقد كان يعمل م�ؤرخ ًا� ،أو ي�شتقها من وظيفتها الوطنية ،ويغدو ناقداً �أدبي ًا .كان ،يف 69 68 �شهوة احلياة ومنازلة املوت وي�رص عليه هو :الإن�سان ،الذي ي�صل �إىل هدفه ّ غري عادلة ،فما يبد�أ منه ما ال ن�ستطيع القيام به» .كان يبدو كما �أراد �أن يبدو ،ذاهب ًا �إىل فل�سطني املنظمة ،والذي �إن ا�ست�سلم �إىل ّ وحد بني الوعي ال�صحيح واملمار�سة � ْإن ّ وراجع ًا منها ،حماوراً غريه وذاته وناظراً �إىل جنم بعيد .حني �أراد �صابر الوعي ال�ضليل انتهى �إىل «مزبلة». حمي الدين حماكاته �أرهقه قلبه يف منت�صف الطريق ورحل ،وهو يف حدود اخلم�سني .الوفاء من عالمات النجباء واملوت يف الطريق مكاف�أة ترجم غ�سان يف منظوره العنيف �أ�صداء كلمة «الجئ» التي حا�رصت ظاملة على حياة �أرادت �أن تكون جنيبة. الفل�سطينيني بعد اخلروج ،و�أطياف الذين تركوا قراهم واندفعوا �إىل حدود جماورة .يرجع تعبري «الذاكرة اجلريحة» ،بلغة �أني�س �صايغ ،مرة -2الغ�ضب املقاتل ورعب املنفى: حول جميع الالجئني ،يف «رجال يف ال�شم�س» �إىل «خماتري» �أخرى وقد ّ فاقدي ال�صالحية� ،أو �إىل «�أموات � ّأجل دفنهم» ،طاملا «�أن الفرار موت»، ا�ستعاد املخرج امل�رصي النبيه توفيق �صالح حواراً بعيداً مع غ�سان و�أن ب�ؤ�س اللجوء ال يليق �إال بالأموات. وقال�« :أدان �صاحب «رجال يف ال�شم�س» اخلروج من فل�سطني �إدانة كاملة ،م�ساوي ًا بني اخلروج و«الفرار» املميت .هكذا فهمت روايته .حني يذكر �أخو غ�سان كنفاين يف كتاب عن �أيام الهجرة الأوىل� ،أحوال �س�ألته عن اجلملة ال�شهرية يف روايته« :ملاذا مل يدقوا جدران اخل ّزان» الالجئني الذين «ا�ست�ضافتهم» �صيدا ،املدينة اللبنانية الكرمية، وهل ق�صد بها التحري�ض ،يف �سياق قومي كان يدعو �إىل التحري�ض� ،أم تتكد�س فيها ّ ووزعتهم على «امل�ساجد» و«املدار�س» وقاعات كبرية جزاء عاد ًال؟ قال: �أنه كان يق�صد �أن ه�ؤالء «الهاربني» من وطنهم لقوا ً عائالت ،تتو�سل «ال�سواتر» جدران ًا ،وتخلق من «ال�سواتر» جدران ًا وهمية ق�صدت بها الإدانة ال�شاملة .فهذه اجلملة مل تكن موجهة �إىل حا�رض عليه وا�شية .ر�أى غ�سان ،كما يقول �أخوه ،يف «امل�ساجد امل�ضيفة» تعبرياً عن �أن يتع ّلم من املا�ضي ،وال �إىل م�ستقبل جتاوز �أخطاء احلا�رض واملا�ضي اليتم ال�شامل ،ذلك �أن امل�سجد بيت اهلل ،و�أن بيت اهلل ال يق�صده �إال اليتيم، مع ًا ،بل كان مق�صوداً منها و�صف «الهاربني وحماكمتهم و�إنزال احلد يتو�سل الإح�سان وال�شفقة ،متناز ًال عن جزء من روحه ال ينبغي ّ الذي الأعلى من العقاب بهم» .وهذا ما �أردت �أن �أقوله يف فلمي «املخدعون»، املت�سول يف ذاكرة غ�سان ،ودفعته ّ التنازل عنه .ر�سبت �صورة اليتيم امل�أخوذ من الرواية ،لكن الرقابة ،امل�أخوذة بالت�صفيق والهتاف ،يف �إىل ت�صور بطويل عدمي ،ي�أمر الإن�سان ب�أن يقاي�ض روحه بكرامته، ذاك الزمان� ،أرادت ت�أوي ًال حتري�ضي ًا للجملة ال�شهرية ،يتوجه �إىل احلا�رض ف�إن رف�ض املقاي�ضة الت�صقت به �صفة «الالجئ» ،و�سقطت عنه �صفة �أكرث مما يتوجه �إىل املا�ضي ،ويتعاطف مع «املخدوعون» ويلتم�س لهم الفل�سطيني« .على الإن�سان �أن ينام يف بيته �أو يبقى �صاحي ًا» ،كان يقول الأعذار. غ�سان وهو يبعث من ذاكرته �صور «الأكوام الالجئة» التي اعت�صمت بكرم امل�ساجد وخ�رست كرامتها الذاتية .ترجم معنى هذه الذكريات يف تابع الأ�ستاذ توفيق :قال يل غ�سان �إنه يرف�ض �أن ينطلق من ال�سياق، التمرد على الوجود ،كي يكون ّ حر�ضت على م�رسحيته «الباب» ،التي ّ مهما كانت �شعاراته ،و�أنه ال ينطلق من الق�ضايا الكبرية ،عادلة كانت �أم 71 70 �شهوة احلياة ومنازلة املوت «نواف �أبو الهيجا» ،الكاتب الذي كان يعي�ش يف خميم الريموك ،ثم الإن�سان الكرمي كما يريد �أن يكون. عمان ،كي يعود �إىل خميم الريموك ،بعد ذهب �إىل بغداد ،ثم رحل �إىل ّ �سقوط بغداد« .علينا �أن ن�ستعيد كرامتنا»« ،لأن اخلروج من فل�سطني، �أما �ضيافة «املدار�س» وقاعات اجلدران الوهمية فقد ر�أى فيها املوحدة ّ أتذكره ،كان ي�شبه يوم القيامة ،الذي يختل�س من العائلة كما � ّ ال�صبي ،الذي كان ينطلق من «نومه» �إىل �شاطئ البحر ،ف�ضيحة وعري ًا ح�س االجتاه وامل�س�ؤولية» .وب�سبب العالقة بني «اخلروج» ويوم القيامة، �شام ًال« :كيف يعي�ش الإن�سان �إن كانت روحه عارية»؟ على �شواطئ «اختار غ�سان جمازاً «العقاب اجلماعي» ،يقول نواف ،حيث «الأب» ال �صيدا ،وقبل ثالثة و�ستني عام ًا ،كان مي�شي �صبي فل�سطني« ،يت�أبط يلحق بعائلته ،والأم �شاردة عن ر�ضيعها الذي �ضاع �إىل الأبد ،و«االبن» ف�ضيحته» ،وي�س�أل الوجود عن معنى الظلم والعدل ،وي�ستنه�ض ج�سده �سوي ًا انك�رس ،وكل ما كان بريئ ًا ينتظر و�صول �أمه امل� ّؤجل .كل ما كان ّ النحيف ليحمل عبئ ًا مل يخرته ومي�شي �صامت ًا .بعد ذلك ب�أربعة وع�رشين تلوث ،و«كل ما �أخل�صت له الأر�ض خانها». ّ عام ًا �سيم�ضي غ�سان تارك ًا العبء لغريه ،بعد �أن ح َّل ج�سد ال�صبي يف ج�سد الرجل ،وبعد �أن عالج «الأمن الإ�رسائيلي» اجل�سد الرا�ضي بخياره حدثه عن �صورة «الكهل الأعمى» نواف ،قبل زمن طويل� ،أن غ�سان ّذكر ّ ب�أدوات قاتلة و�أعطاه �صورة جديدة :الوجه يف مكانه ،والعينان تنظران الذي كان ي�أخذ الهاربون �إىل امليناء بيده ،يف ربيع « :1948حني علت �إىل �أعلى ،ودم على الأذنني ،وال�صدر انف�صل عن بقية اجل�سد ب�شكل مائل �صيحات الهاربني وهم يقرتبون من «القارب» توقف الأعمى يف مكانه، م�ستقيم ،كما لو كان قد قطع ب�سكني حادة ال تعرف اخلط�أ ،والذراعان قال �شيئ ًا ،رفع يده ورجع �إىل الوراء ،حماو ًال �أن يعود �إىل املكان الذي ك�أنهما يف مكانهما ،واليد التي تكتب ا�ستقرت �شظايا يف مكان َع ِ�ص ّي جاء منه ،وعار�ض اجلموع املتالطمة وغاب عن الب�رص» .كان غ�سان على التحديد .هكذا بدا غ�سان بعد «اغتياله» ،وقد ا�ستقر ن�صفه الأعلى ي�س�أل :ماذا قال الرجل؟ وملاذا ان�سحب حني اقرتب من القارب؟ و�إىل �أين على �أر�ض مرتبة �إىل جانب جدار. عاد؟ وكيف مات؟ «اجلميع ميوت ولكن كيف؟» كان الأعمى حمق ًا لأنه مل يكن �أعمى مات كما يريد وو ّفر على ذاته «ذل املخيم». ذكر �إميل حبيبي ،يف مقابلة قبل �أن يغادر بعامني� ،أن غ�سان ،يف مييز الغرب من اجلنوب. روايته «عائد �إىل حيفا» ،خلط بني اجلهات ،ومل ّ املخيم هو املجاز الكامل الذي قر�أ غ�سان فيه «العار الفل�سطيني»، وواقع الأمر �أن هواج�س غ�سان كانت مغايرة لهواج�س �إميل ،فلم يكن واملخيم الفل�سطيني ،يف �صورته اللبنانية حتديداً ،حيث الالجئون ي�أكلون الأول م�شغو ًال بتفا�صيل املكان بل كان ،وهو يتذكر ويت�أمل ويحا�سب، �أقل وي�رشبون �أقل ويتنف�سون �أقل ،ف�إن رفعوا �صوتهم جاءتهم �صفعة حتت وط�أة «فرار» اجلموع املتالطمة ،التي كانت تتقي «الطلقات «الدركي» الغليظة .ولهذا و ّزع غ�سان «املخيم» على جميع رواياته :يف الإ�رسائيلية» ،باللواذ بـ «البور» حيث القوارب ال�ضيقة حتمل «الأرواح «رجال يف ال�شم�س» �شيء من املخيم ،ويف «الأعمى والأطر�ش» �أ�شياء ال�ضائعة» �إىل مالذ عنوانه :الف�ضيحة« .علينا �أن ن�ستعيد كرامتنا» قال من املخيم ،واملخيم له احل�ضور كله يف «ما تبقى لكم» .املخيم لي�س هو غ�سان ،ذات �صيف ،يف منت�صف ال�ستينات يف دم�شق ،لزميله الفل�سطيني 73 72 �شهوة احلياة ومنازلة املوت جتمع الالجئون يف «خميم الأليان�س»،وب�سبب عدد الالجئني الكبري ّ بالبيت ،وال هو بال�سجن ،وال هو باملنفى متام ًا� ،إنه بقايا مكان وبقايا ن�سبة �إىل بناء كبري حائل اللون يدعى «مدر�سة الأليان�س» ،التي �أ�صبحت بيت ،وفيه بقية من �سجن ،وفيه ب�رش �سقطت عليه «النقمة» ،يف انتظار خا�صة بالتالميذ الفل�سطينيني. يوم ي�صحو فيه من خذل كرامته. يف نهاية خم�سينيات القرن املا�ضي �أو يف بداية �ستيني اته ،كنا منر، كان الراحل ناجي العلي ،ر�سام الكاريكاتور ،مي�شي يف �أزقة خميم وقد �أ�صبحنا �شباب ًا� ،إىل جانب «مدر�سة الأليان�س» ،ونرى �إىل بقايا ر�سم «عني احللوة» يف �صيدا ،قبل �أن يذهب �إىل مكتبه يف جريدة «ال�سفري»، على جدارها اخلارجي ،ل�صبية يتطايرون يف الهواء يلعبون كرة القدم. يف بريوت ،وير�سم �أكرث من «لوحة» ،مدرك ًا �أن الرقيب يقبل ب�أ�شياء املحوطة ّ كان يف �أو�ضاع ال�صبية ما يثري الف�ضول ،ب�أج�سادهم الطائرة ويرف�ض �أخرى .كان لـ «امل�شي» يف الأزقة �شكل القاعدة« :الزم �أتن ّف�س بالفراغ ،كما لو كانوا ي�ستندون �إىل �أرواحهم �أو مي�سكون بحبال من هواء املخيم قبل �أن �أر�سم» ،كان يقول ناجي ،م�ست�أنف ًا غ�ضب غ�سان، هواء .قال �أحدنا ،وكان قومي ًا عربي ًا ،بلهجة فخورة :هذا من ر�سم غ�سان الذي اتخذ من االحتجاج على املخيم منهج ًا يف القراءة والكتابة .من كنفاين ،الذي بد�أ بن�رش ق�ص�ص ق�صرية� ،آنذاك ،يقر�ؤها القوميون العرب �أين ت�أتي الأفكار التي ترتجمها الروايات وتفرت�ش الر�سوم؟ ت�أتي من قبل غريهم. املعي�ش ،وتكون جارحة ومع ََّذبة ومع ِّذبة( الأوىل بفتح الذال والثانية بك�رسها) حني ت�أتي من املعي�ش الفل�سطيني يف املخيم« .كانوا يطوون �أكمل القومي العربي ،الذي �أ�صبح تاجراً ثري ًا و�رصعته نوبة قلب يف هزائمهم كما ُتطوى الرايات» ،كان يقول غ�سان ،الذي ا�ست�أنف ناجي �إحدى دول اخلليج« :كان غ�سان يعرف هذه املنطقة معرفة كاملة ،فقد ملينْ مع ًا برايات �أخرى .قتل الإ�رسائيليون الأول ،و ُقتل ر�سالته ،حا َ عمل �أ�ستاذ ريا�ضة يف مدر�سة الأليان�س ،وكان ير�سم يف �أوقات الفراغ، الثاين بر�صا�صات لي�ست «�إ�رسائيلية». ويتق�صى �أحوالهم ،ويدرجهم يف ق�ص�صه ّ ويتحدث مع التالميذ الفقراء ّ الق�صرية» .نظر �إىل اجلهة املقابلة ،و�إىل الأ�سفل قلي ًال ،وقال« :ذلك �سوق -3تو�سيع الزمن واال�شتباك مع احلياة: �سماها( :زمن اال�شتباك) ،حتدث فيهااخل�ضار الذي �أخذ منه غ�سان ق�صة ّ ظن �أن عن �صبي فقري عرث على (خم�س لريات) ،و�أخذ بالرك�ض بعد �أن ّ يتحدثون عن «حارة ّ بعد النكبة بعام �أو �أكرث ،كان الفل�سطينيون «ال�رشطي» ر�آه ،و�أ�رسع يف رك�ضه بعد �أن ظن �أن امل�شرتين والبائعني اليهود» يف دم�شق القدمية ،التي �سافر عدد من �أهلها �إىل فل�سطني يطاردونه ،و�أمعن يف الرك�ض حني اعتقد �أن املدينة كلها تالحقه، املحتلة .كانت ال�سلطات قد و ّزعت الالجئني على عدد من البيوت التي جتد يف �إثره». و�سابق الهواء حني ا�ستقر يف نف�سه �أن الب�رشية كلها ّ غادرها �أهلها� ،أ�شهرها «ق�رص �شمعايا» ،البناء الوا�سع ذو «الأ�صل تكد�ست فيه عائالت فل�سطينية الجئة ،كان �صبيتها العريق» ،الذي ّ تابع القومي العربي الراحل وقال« :الأرجح �أن ال�صبي الذي �سابق يت�أملون ،با�ستغراب« ،يهوديات» يتناق�ص عددهن يوم ًا بعد يوم. 75 74 �شهوة احلياة ومنازلة املوت �صاحبه �أن يقبل كتابي ثمن ًا لوجبة ،لأين ال �أملك ما يكفي من النقود، الهواء كان غ�سان نف�سه ،والأرجح �أن غ�سان بالغ يف الو�صف ،لأنه كان ور�ضي �صاحب املطعم وخرجت �سعيداً .قال عبد الرحمن :قد تكون م�أخوذاً بفكرة املطاردة ،ويرى احلياة كلها لعبة بني �صياد وطريدة ،بل الق�صة م�سلية ،فقد �ضحك غ�سان و�أ�ضحك غريه عليه ،لكنها «يبدو يل» كان يقول لنا ،وهو ي�رشح لنا فكر القوميني العرب :ال تنجو الطريدة �إال (وهي من تعابري عبد الرحمن الأثرية) تعبري عن عفوية غ�سان الطليقة، ال�صياد ،لأن الرك�ض وحده ال يقود �إىل النجاة». ّ �إذا عرفت كيف يف ّكر التي كانت تتيح له �أن يخترب احلياة ،بال قيود ،و�أن يخترب ذاته وهو يخترب احلياة». ل�ست �أدري �إن كان القومي العربي ،قد �ساوى بني اال�شتباك واملطاردة، ذلك �أن غ�سان كان م�سكون ًا بفكرة اال�شتباك ،التي تعني املواجهة ال تذكر بق�ص�ص (�أو .هرني ) رمبا ما ي�ست�أنفيف الق�صة ال�ساخرة ،التي ّ الهرب .ولعل فكرة اال�شتباك هي التي دعته �إىل الكتابة عن موظف فكرة اال�شتباك ،التي تبد�أ بثمن وجبة ب�سيطة� ،أو متتد بعيداً �إىل التن�سيق احلدود الفا�سد و«املختار» املتواطئ والفل�سطيني املتداعي الذي قاي�ض مع «اجلي�ش الثوري الياباين» من �أجل �رضب امل�صالح الإ�رسائيلية ،وقد ذاكرته بقرو�ش قليلة ،و�إىل كتابة ق�صته الق�صرية املده�شة «العرو�س»، تتمهل قلي ًال وتواجه روائي ًا كبرياً ،يريد غ�سان �أن ي�ستفيد منه و�أن يطبق حيث البندقية امتداد للفل�سطيني الأ�صيل .كل �شيء فعله غ�سان �أو اقرتب تقنيته على «مادة فل�سطينية»: منه كان ينطوي على �شكل من اال�شتباك :ال�صبية املتطايرون يف الهواء كانوا ي�شتبكون مع الكرة ومع خ�صم يرونه وال يراه غريهم ،والكتابة روى ال�صحايف الفل�سطيني املعروف بالل احل�سن �أن غ�سان ،وهو املقاتلة ا�شتباك مع كتابة �أخرى ،وللأفكار داخل غ�سان معاركها التي يكتب روايته «ما تبقى لكم» ،كان يقول له :كل يوم يجل�س �إىل جانبي ال تنتهي ،بد�أت بقومي عربي وانتهت مبثقف يحاور الأفكار جميع ًا، الروائي الأمريكي وليم فوكرن� ،أحاوره يف روايته «ال�صخب والعنف»، وللج�سد املري�ض بال�سكري ا�شتباك ال يخرج منه منت�رصاً. و�آخذ مكانه بالطريقة التي �أريدها ،وا�ستعري منه تقنية الأ�صوات أود الو�صول �إليه .مل يكرتث املتقاطعة وتقطيع الزمن ،و�أ�صل �إىل ما � ّ وما اال�شتباك املتواتر �إال فعل تقوده ذات حرة ،تقوم مبا ترغب به غ�سان بالفرق بني قدرين من �أقدار احلياة ،كان للأمريكي املكان وتنحي م�سبق ًا �أحكام الآخرين .روى الراحل العزيز عبد الرحمن منيف ّ والزمان اللذان يريد وكان لغ�سان «�أحد ع�رش يوم ًا» كي ينهي روايته، حكاية �شهدها� ،أو �سمعها من غريه« :كان القوميون العرب ،وغريهم وكانت له متاهة بريوت التي دخلها عمالء املو�ساد وم ّزقوا غ�سان وابنة من �أن�صار الثقافة وال�سيا�سة ،يرتددون على مطعم «في�صل» ،القريب متفجرة. ّ �أخته بعبوة من اجلامعة الأمريكية يف بريوت .دخل غ�سان كنفاين ،مرة �إىل املطعم ومعارفه يتناولون الغداء ،وكان �شاحب ًا و�ضاحك ًا مع ًا ،كما كان دائم ًا. «م ْن ي�سيطر على اللحظة يفعل ما يريد» قال غ�سان للدكتور �إح�سان َ حني دعاه معارفه �إىل مقا�سمتهم الطعام قال�« :سبقتكم»� :أخذت الن�سخة رد الأخري على �أ�ستاذه عبا�س� ،أجابه الأخري« :اهد�أ قلي ًال يا غ�سان»ّ ، الأوىل من كتابي اجلديد وذهبت �إىل مطعم ،تناولت الغداء وطلبت من 77 76
Enter the password to open this PDF file:
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-
-