1 نحن جميعًا نعيش في ظل يقين وهمي، نعتقد أن الغد سيحمل لنا ما نخطط له، ونبني آمالنا عليه لكن الحقيقة أن الغد ليس سوى ساحة مجهولة، مليئة بالتحولات التي قد تغير كل شيء في لحظة قد ننظر إلى المستقبل كما لو كان كتابًا مفتوحًا أمامنا، نقرأ صفحاته بعناية، لكن فجأة، يأتي الغدر في شكل أحداث غير متوقعة، تقلب الطاولة على كل ما ظنناه مستقرً ا لا شيء يبقى على حاله، ولا يمكننا أن نثق بما يخبئه لنا الزمن كل لحظة في الحياة قد تحمل معها المفاجأة التي تزيل عن أعيننا الستار وتكشف لنا ً عالما لم نكن نعرفه هي لحظة واحدة قد تُغير مسارنا إلى الأبد، تجعلنا نشك في كل شيء، وتعلمنا أن نعيش دون يقين بما سيحدث غدًا في بعض الأحيان، يكون التعمق في أمور لا نعرف عنها شيئًا مجرد خطوة نحو نهايتنا الحتمية فما قد يبدو لنا ً سؤالا بسيطًا أو ً فضولا بريئًا، قد يفتح أبوابًا لا يمكننا إغلاقها، ويأخذنا في طريق لا يمكننا العودة عنه قد يكون الفضول عدوً ا خفيًا، يظل يجرنا إلى ما هو أكثر ً ظلمة ً وألما 2 كن مستعد 3 لأنك إذا دخلت 4 ستكون انت النهاية 5 الفصل الأول : نهاية البداية 6 قبل أن يتحول كل شيء كان صباحًا عاديًا بالنسبة لليان، طفلة الرابعة عشرة ذات الأحلام الكبيرة والفضول الذي لا يتوقف. استيقظت على صوت أمها يناديها كعادتها : “ ليان، قومي بسرعة ! يوم الجمعة مو يوم للنوم الطويل. ” تثاءبت وهي تحاول تجاهل النداء، لكنها قفزت من السرير بحماس حينما تذكرت أنهم اليوم سيخرجون في نزهة عائلية. ركضت نحو المطبخ حيث كانت أمها ترتب الطاولة، وأخوها الصغير يدور حولها كعاصفة صغيرة، يحاول الحصول على قطعة خبز قبل أن تضعها في السلة. والدها كان يجلس بهدوء في الزاوية، يقرأ الجريدة بابتسامة هادئة. رفع عينيه نحوها وقال : “ صباح الخير يا محققتنا الصغيرة ! هل اكتشفت ِ أي جرائم هذا الأسبوع؟ ” توقفت ليان لحظة، ثم ابتسمت بمكر وقالت : “ في الحقيقة... نعم. ” رفع والدها حاجبيه بدهشة مصطنعة وقال : “ أوه، أخبريني إذًا ! ما هي هذه الجريمة العظيمة؟ ” جلست ليان على الطاولة وأخذت نفسًا عميقًا، وكأنها تحكي قصة من قصصها البوليسية المفضلة. “ سمعت عن مجرمة عبقرية تدعى ‘ رُ غد ’ . هي واحدة من أخطر المطلوبين في العالم. كانوا يطلقون عليها لقب ‘ الرأس المدبر ’ لأنها كانت تخطط كل شيء بإتقان يجعل الشرطة دائمًا خطوة خلفها. تخيّل يا بابا، هذه المرأة تمكنت من سرقة أكبر بنك في أوروبا، ولم يتمكن أحد من الإمساك بها حتى الآن ”! والدها ضحك وقال : “ وما الذي جعلها عبقرية لهذه الدرجة؟ ” “ لأنها لم تكن تعمل وحدها. كانت تقود عصابة كبيرة، وكانت تعرف كيف تخفي آثارها، وكيف تُقنع الآخرين بتنفيذ الجرائم بدلا ً عنها. كأنها تلعب شطرنج والشرطة مجرد أحجار على رقعتها. ” 7 أمها التي كانت تتابع الحديث بابتسامة، قالت : “ ليان، أنت ِ تعيشين في عالم آخر تمامًا ! بدلا ً من التفكير في المجرمين، فكري في شيء مفيد لحياتك. ” لكن ليان لم تهتم بكلمات أمها، بل أكملت حديثها بحماس وهي تتابع : “ أتعلمين يا ماما؟ أحيانًا أشعر أنني لو كنت مكان الشرطة، كنت سأمسك بها في يوم واحد فقط. كل ما تحتاجينه هو التفكير مثلها ”! النزهة بعد انتهاء الفطور، بدأت العائلة في التجهيز للنزهة. ركبت ليان في المقعد الخلفي بجانب أخيها الصغير، الذي كان يُمسك كتاب تلوين، يتظاهر بأنه يقرأه مثل الكبار. “ ليان، هل تعتقدين أن المجرمين دائمًا أذكياء؟ ” سألها وهو ينظر إليها بعينيه البريئتين. “ ليس كلهم، لكن بعضهم أذكياء جدًا. المشكلة أنهم يستخدمون ذكاءهم في الأشياء الخاطئة. ” التفت والدها وقال مازحًا : “ أرجوكِ ، لا تُعطي أخاك ِ أفكارً ا سيئة. آخر شيء نريده هو أن يصبح مجرمًا صغيرً ا ”! ضحك الجميع، وكأن هذا اليوم سيكون من أجمل الذكريات في حياة العائلة. لكن الحياة دائمًا لها خطط أخرى. للبؤس دومًا مكان بيننا بينما كانت السيارة تسير في الطريق الجبلي، كان الجميع يتحدثون ويضحكون. “ متى سنصل؟ ” سأل أخوها الصغير بنبرة متذمرة. “ قريبًا، يا صغيري. فقط تحل َّ بالصبر. ” رد والدها بلطف. لكن ليان شعرت فجأة بشيء غريب. كانت السيارة القادمة من الاتجاه المعاكس تسير بسرعة جنونية، والطريق ضيق جدًا. “ بابا، انتبه ”! صرخت ليان، لكن كلماتها جاءت متأخرة. الشاحنة اصطدمت بسيارتهم، وكل شيء بعدها أصبح صمتًا. 8 بعد مرور 13 عام استفاقت ليان على صوت أجسام تترنح حولها، ضوء أبيض ساطع يغمر الغرفة بأكملها، لكن عقليها كان مشوشًا، كما لو أن الزمن قد توقف ولم يعد يعني شيئًا بالنسبة لها. هل كانت نائمة أم كانت غارقة في حلم طويل؟ الصوت الذي تسمعه كان يشبه الأنين البعيد، لكنها لا تستطيع تحديد مصدره. أغمضت عينيها مجددًا، محاولا ً طرد ذلك الشعور الغريب الذي كان يغزو كل زاوية من ذهنها، وكأنها كانت في مكان آخر... في حياة أخرى. لم تكن تعرف كم مر من الوقت، لم تكن تدرك حتى أين كانت أو ما يحدث. لكن شيئًا واحدًا كان واضحًا : كان هناك شيء غريب في داخلها. شيء كان يهمس لها بشيء لم تستطع فهمه. “ هل أنت ِ بخير؟ ” جاء الصوت مجددًا، هذه المرة أقرب إليها. شعرت به يهز قلبها. فتحت عينيها ببطء، لتلتقي بنظرات وجه مألوف، لكن عيناها كانت ضبابية، غير قادرة على التعرف عليه بشكل كامل. “ أنت ِ في المستشفى، ليان، ماذا حدث؟ ” قالت المرأة بحذر، لكن ليان لم تكن قادرة على الرد. كل شيء كان ضبابيًا. حاولت أن تتحرك، لكن جسدها كان ثقيلاً ، وكأنها لم تعد تعرفه. قلبها كان ينبض بسرعة غير طبيعية، والعقل الذي يسيطر عليها كان يعصف بكل أفكارها. كانت كأنها ضائعة في مكان لا تعرفه، في جسد لا تعرفه، وفي ذهن لا تستطيع تحديد ملامحه. “ متى كانت آخر مرة... رأيت ِ عائلتك؟ ” سأل الصوت مجددًا، هذه المرة كان الطبيب الذي دخل الغرفة. لكن تلك اللحظة كانت كالصاعقة. عائلتها؟ كانت عائلتها قد توفيت في الحادث الذي دمر حياتها. كيف يمكن أن يسألها عنهم؟ لم تتذكر شيئًا عن الحادث بشكل واضح، لكن صورة مشوشة من حادث مروع كانت تدور في ذهنها، وصوت تكسير الزجاج وأصوات الصراخ كان يرن في أذنيها. “ عائلتي... هل... هل هم بخير؟ ” سألته بصوت ضعيف، لكن كلماتها كانت محملة بالقلق. 9 أجاب الطبيب بنبرة حزن، لكن وجهه كان جادًا. “ أنت ِ في المستشفى منذ حادثك، ليان. عائلتك... لم ينج ُ منهم أحد. ” فجأة، شعرت بشيء يشق طريقه في أعماق قلبها، كأن الألم يبتلعها ببطء. كيف؟ لماذا؟ كيف انتهى بها الحال في هذا المكان؟ لماذا لا تتذكر شيئًا؟ كل تلك الأجوبة كانت تختنق في قلبها، لكن عقليها كان يرفض أن يتقبل الحقيقة. كانت تتمنى لو أن هناك شخصًا آخر هنا، شخص يعيد إليها ذكرى ماضيها، لكن لا أحد كان هناك. ثم، جاء السؤال الذي بدأ يراودها. “ من أنا؟ ” همست به إلى نفسها، لكن صوتها كان كالبحث في فراغ مظلم، وكأن الإجابة كانت محجوبة عنها. مرت الأيام وكأنها تمر ببطء، ليان كانت تحاول أن تعود إلى حياتها، لكن كل شيء كان غريبًا. لم تكن تعرف حتى كيف تعيش في هذا الجسد، كيف كانت تفكر. كانت تلك الحياة التي كانت تعرفها تبتعد عنها شيئًا فشيئًا، وتلك اللحظات التي كانت تبدو بسيطة، أصبحت مشوشة في ذهنها. كان عمها الوحيد يزور غرفتها بانتظام، وجهه يتغير بين القلق والطمع، وكأن كل همّه كان الحصول على نصيبه من الورث. كان قد أصبح يصرخ في وجهها في أكثر من مرة، مطالبًا بالميراث وكأن لا شيء آخر في هذا العالم يهمه. وفي أحد الأيام، دخل عمها غرفتها، وعيناه مشتعلة بغضب. “ لقد تأخرت ِ في اتخاذ القرار ! عليك ِ تقسيم الميراث بسرعة. لا أعتقد أنه هناك وقت للانتظار أكثر ”! قال بنبرة حادة. كانت ليان جالسة على السرير، نظراتها ضبابية ومشتتة، لكنها استطاعت أن تلاحظ التغير في وجه عمها. كان يتحدث عن المال، عن الورث، بينما كانت هي غارقة في أوجاعها وتراكم الأسئلة عن حياتها التي فقدتها. “ هل هذا كل ما يهمك، عمّي؟ ” قالت ليان بصوت منخفض، كانت كلماتها تتسرب بين شفتيها كمن يعبر عن شعور مرير. “ أنت هنا تجلس لتتحدث عن المال، وكأن الموت لم يمر علينا جميعًا. وكأنك لا تهتم بما حدث لأخيك، ولا لما مررت به. ” توقف عمها عن الكلام للحظة، لكن لسانه كان يصرخ. “ أنت ِ في وضع صعب، وأنت ِ الآن بحاجة لتتخذ القرار. المال هو من يحدد كل شيء، هل تعلمين؟ هذا هو واقع الحياة. ” 10 “ لا، هذا ليس واقع الحياة، هذا واقعك أنت فقط ”! كانت كلمات ليان قوية، كانت تشعر بالغضب يشتعل داخلها. “ أنت لم تكترث لوالدي، ولم تكترث لي، فقط تفكر في كيف تحصل ً على المال. هذا ليس عادلا ”! هزت رأسها بخيبة أمل، بينما كان عمها يلوح بيده في الجو، محاولا ً السيطرة على نفسه، لكن الكلمات كانت قد خرجت ولم يكن بمقدوره أن يكذب عليها بعد الآن. تساقطت دموع ليان على وجنتها، ليس فقط بسبب الخوف والضياع، ولكن لأن الألم الذي شعرت به كان أكبر من كل شيء. كانت تتساءل في أعماق قلبها، هل هذا هو العالم الذي تركت فيه عائلتها؟ “ أريد أن أكون لوحدي الآن، من فضلك. ” همست ليان، وأغمضت عينيها، وكأنها تحاول الهروب من الواقع المحيط بها. كان عمها يقف في الباب، ينظر إليها لفترة، ثم غادر الغرفة بصمت. لكن ليان كانت تعرف شيئًا واحدًا : أنها في هذه اللحظة، رغم كل شيء، لم تكن هي نفسها بعد... 11 الفصل الثاني: صوت الصمت... وبداية الفوضى 12 قضت ليان يومها الأول في المنزل غارقة في أفكارها. الجدران التي كانت يومًا تحتضن طفولتها أصبحت شاهدة على كل شيء فقدته. لم تكن الخسارة تقتصر على والدها فقط، بل شعرت أنها فقدت عمرها في السعي وراء أحلام الآخرين، تاركة حلمها الحقيقي يتلاشى في زحمة الواجبات. في تلك الليلة، وبينما كانت معدتها الخاوية تضغط عليها للخروج، قررت الذهاب للبقالة القريبة. ارتدت معطفها وخرجت، تمشي بخطى ثقيلة في الشارع المظلم، والبرد يلسع بشرتها. كانت الساعة متأخرة، والمدينة تغرق في هدوء مخيف. بينما عادت أدراجها بعد شراء بعض الطعام، مرت بممر ضيق ينبعث منه رائحة كريهة للغاية. توقفت مكانها للحظة، قبل أن يتغلب الفضول على خوفها. تقدمت بخطوات حذرة، تتبع الرائحة حتى توقفت أمام المشهد الذي جمد الدم في عروقها. كانت هناك جثة مستلقية على الأرض، مغطاة بظل من الموت. الدماء لم تجف بعد، تتسرب ببطء لتشكل بركة صغيرة حول الجسد. قلبها خفق بسرعة، لكنها لم تستطع الهرب. بدلا ً من ذلك، وجدت نفسها تقترب أكثر، تلاحظ تفاصيل المشهد بعينين مثقلتين بالخوف. تراجعت للخلف وأخذت نفسًا عميقًا. خطرت لها فكرة العودة إلى البقالة لتفحص الكاميرات، علّها تجد دليلا ً على ما حدث. عندما وصلت، طلبت من العامل أن ترى التسجيلات، وبدافع الغرابة، وافق دون أي اعتراض. لكن شيئًا ما لفت انتباهها. الكاميرات كانت معطلة، وبدا ذلك واضحًا على الشاشة المظلمة. نظرت إلى الأسلاك، فلاحظت أنها قُطعت بطريقة مرتبة، وكأن هناك من أراد تعطيلها عمدًا. هذا الأمر أثار شكوكها أكثر، لكن العامل ظل يتصرف بهدوء مريب، مما جعلها تشعر أن الأمور ليس ت كما تبدو. عادت إلى الممر الضيق، تتفحص الأرضية بتمعن. رأت آثار أقدام صغيرة متجهة بعيدًا عن المكان، وكأن الجاني هرب على عجل. بدأت تجمع في رأسها خيوط القصة، وشعرت أن الإجابة أقرب مما تتخيل. عادت مرة أخرى للبقالة، تطلب تفسيرً ا حول الكاميرات. تظاهرت بالهدوء وهي تسأله، لكن نظراتها ظلت تراقب يديه. هناك، على طرف كمه، لاحظت بقعة دم بالكاد مرئية. شعرت أن القطع الأخير من اللغز قد اكتمل. 13 اتصلت بالشرطة وأخبرتهم بما رأته منذ لحظة خروجها من المنزل. شرحت تفاصيل الجثة، تعطل الكاميرات بطريقة متعمدة، وكيف أن بقعة الدم الصغيرة على العامل تشير إلى تورطه. لم تمر دقائق طويلة حتى وصلت الشرطة وبدأت التحقيق. بعد مواجهة قصيرة، انهار العامل واعترف بكل شيء. الضحية كانت تدين له بمبلغ مالي كبير، وعندما عجزت عن السداد، قرر إنهاء حياتها. خطط لتعطيل الكاميرات قبل تنفيذ الجريمة ليضمن عدم وجود دليل ضده. عادت ليان إلى المنزل بعد هذه الليلة الطويلة، لكنها لم تكن كما كانت. الحادثة أيقظت بداخلها شعورً ا غريبًا... إحساسًا أنها تملك مهارة مميزة في التحقيق، وكأنها وُ لدت لتكون محققة. رغم عدم امتلاكها شهادة، شعرت أنها قادرة على خوض هذا المجال بخبرتها وحدها. في اليوم التالي، أثناء حديثها مع الشرطة، أظهروا إعجابهم الشديد بتحقيقها. أحد الضباط سألها بابتسامة : “ هل تعملين كمحققة؟ أم أنك مجرد فتاة عادية؟ ” شعرت للحظة بالاعتزاز بنفسها، لكنها أجابت بصراحة : “ مجرد فتاة، لكنني أحب حل الألغاز. ” هذا التشجيع دفعها لتجربة حظها. حملت سيرتها الذاتية البسيطة التي لا تحتوي على شهادات أو مؤهلات أكاديمية، وتوجهت إلى أكثر من قسم تحقيق في المدينة. كانت الإجابة دائمًا واحدة : “ آسفون، لكننا لا نقبل سوى المؤهلين أكاديميًا. ” رغم شعورها بالإحباط، لم تستسلم. كانت تعرف أن الحياة قد منحتها ذكاء ً حادًا وقدرة على رؤية التفاصيل التي لا يلاحظها الآخرون. بعد أسبوعين من المحاولات الفاشلة، استيقظت ذات صباح على إشعار جديد في بريدها الإلكتروني. فتحته بيدين مرتجفتين، لتقرأ : “ تهانينا ! لقد تم قبولك في قسم التحقيقات. نحن نؤمن بقدراتك الفريدة ونعتقد أنك ستكونين إضافة قيمة لفريقنا. ننتظر انضمامك بفارغ الصبر. ” لم تصدق ما قرأته. شعرت وكأن العالم أعطاها فرصة جديدة، رغم أنها لا تملك شهادة، إلا أن خبرتها كانت تكفي لإثبات ذكائها. ارتدت أجمل ما لديها في ذلك اليوم، وتوجهت إلى القسم وهي تحمل بداخلها طموحًا جديدًا، وكأنها على وشك كتابة أولى فصول قصة نجاحها كان يومها الأول في الوظيفة الجديدة مشوبًا بمشاعر مختلطة. بين حماستها لتحقيق ما ظنت أنه مستحيل، وخوفها من أن تواجه عواقب قلة خبرتها الأكاديمية. وقفت أمام مبنى قسم 14 ُّ التحقيقات، تتأمل الواجهة الزجاجية التي تعكس صورة فتاة كانت تُعَد “ عادية ” ، لكنها اليوم تقف على أعتاب تحقيق حلمها. استقبلها فريق العمل بتفاوت واضح في ردود الأفعال. بعضهم أظهر ترحيبًا حارً ا وابتسامات مشجعة، بينما اكتفى آخرون بنظرات جانبية لم تخف ِ التذمر. همسات خافتة كانت تصل إلى أذنيها : “ كيف قبلوها؟ بدون شهادة؟ ” “ نحن اجتهدنا لسنوات في الدراسة والتدريب، وهي تدخل هكذا بسهولة؟ ” كانت ليان تحاول تجاهل التعليقات والنظرات، لكن الكلمات كانت تثقل كاهلها. لم تكن ترغب في أن تصبح مصدر إزعاج أو شعور بالظلم لأحد، لكنها في الوقت ذاته لم تستطع إنكار أن هذه الفرصة هي شريان حياة جديد ألقته لها الأيام بعد سنوات من الفراغ والندم. مع كل قضية تُعرض على القسم، كانت ليان تشعر بمزيج من الإثارة والخوف. لم يكن لديها خلفية أكاديمية تدعمها، لكنها اعتمدت على إحساسها الفطري وتحليلها الدقيق للأمور. أظهرت نجاحًا في ربط التفاصيل الصغيرة، رؤية ما يغيب عن أعين الآخرين، وتقديم استنتاجات مبهرة. لكن نجاحها لم يكن كافيًا لإرضاء الجميع. بعض زملائها كانوا يترصدون لها، يلقون تعليقات لاذعة : “ من السهل أن تعتمدي على الحظ مرة أو مرتين، لكن إلى متى سيستمر ذلك؟ ” “ مهما فعلتِ، لن تكوني مثلنا. نحن تعبنا لنصل إلى هنا. ” كانت ليان تستمع بصمت، تحاول ألا تُظهر تأثرها. لكن في الداخل، كانت تلك الكلمات تمزقها. تذكرت كيف ضاع عمرها في غيبوبة طويلة، وكيف استفاقت لتجد أن كل شيء تغير، وأنها خسرت سنوات كان يمكن أن تحقق فيها حلمها بدراسة التخصص الذي تحبه. شعرت وكأنها تعاقب على شيء لم يكن بيدها. رغم الصعوبات، كانت ليان تعرف أن الطريقة الوحيدة لتثبت نفسها هي أن تكون أفضل. بدأت تقضي ساعات طويلة بعد العمل في قراءة ملفات القضايا القديمة، دراسة كتب التحقيقات الجنائية، ومتابعة فيديوهات تعليمية عبر الإنترنت. قررت أن تتعلم كل شيء بمفردها، لتثبت أنها تستحق مكانها في الفريق. 15 في إحدى القضايا التي أُسندت للفريق، كان هناك لغز حول سلسلة سرقات معقدة في المدينة. الجميع كان يعمل على القضية، لكن ليان تمكنت من ملاحظة تفصيل بسيط في أحد الأدلة التي تم تجاهلها. بناء ً على تحليلاتها، تم القبض على المشتبه به، وكان الحل مفاجئًا للجميع. رغم نجاحها، لم تتغير مواقف بعض الزملاء. كانت التعليقات تستمر : “ حظ آخر... لن يستمر طويلاً . ” لكنها لم تكن بحاجة لإقناعهم بالكلمات. كانت تعرف أن أفعالها ستتحدث نيابة عنها. ما لم تكن تتوقعه ليان هو الدعم الذي جاءها من قادتها في العمل. رئيس الفريق، الذي كان يراقب أدائها بصمت، دعاها إلى مكتبه يومًا وقال : “ ليان، أعلم أنك تواجهين صعوبات هنا. لكنني أريدك أن تعرفي أن وجودك هنا ليس صدفة. نحن رأينا فيك شيئًا استثنائيًا. لا تدعي أحدًا يشكك في قدراتك. ” كانت تلك الكلمات بمثابة دفعة معنوية كبيرة لها. قررت من بعدها ألا تركز على من يكرهها، بل على ما تستطيع تحقيقه. رغم كل ما حققته، لم يكن الطريق سهلاً . كانت لياليها الطويلة تمتلئ بالأفكار والندم. كثيرً ا ما تساءلت : “ لو لم أضيع سنوات حياتي، هل كنت سأعيش هذه اللحظة بثقة أكبر؟ ” كانت ترى زملاءها يتحدثون عن جامعاتهم وتجاربهم الأكاديمية، وتشعر بأنها مختلفة عنهم، وكأنها دخيلة على هذا العالم. لكنها في الوقت نفسه، شعرت أن حياتها أعطتها خبرة لم تمنحها الجامعات. قدرتها على قراءة الأشخاص وتحليل المواقف كانت ثمرة تجاربها، وليس شهادتها. جاء اليوم الذي كانت تنتظره ليان منذ انضمامها إلى عالم التحقيق. شعور بالترقب والخوف تملّكها عندما طلب رئيس الفريق الحديث معها على انفراد. رئيس الفريق : “ ليان، أعتقد أن الوقت قد حان لتثبتي قدراتك بشكل حقيقي. ” ليان ( بثقة ممزوجة بالتوتر :) “ لكن ألا تعتقد أنني أثبت نفسي بالفعل؟ إنجازاتي مع الفريق تتحدث عن نفسها. ” رئيس الفريق ( يبتسم برفق :) “ ليان، ما أقصده أعمق بكثير مما تتصورين. لقد حان الوقت لتخطّي مرحلة العمل الجماعي والانتقال إلى ما هو أكبر. حان وقت العمل بمفردك. ” 16 تسمرت ليان للحظة، وملامح الذهول ارتسمت على وجهها، وكأنها تعرف ما سيقوله قبل أن ينطق به. ليان ( بصوت متردد وحماس مختلط بالخوف :) “ حـقًا؟ هل تعني أنك ستوكلني بقضية كاملة لأحلها بمفردي؟ ”! رئيس الفريق ( يضحك :) “ ِ أحسنت ! لم ِ تكتف فقط بحل القضايا، بل يبدو أنك بدأت ِ تقرأين العقول أيضًا. نعم، هناك قضية معقدة فُتحت مجددًا في قسمنا بعد أن عجز الجميع عن حلها. ” تغيرت نبرة صوته إلى الجدية وهو يكمل : “ هذه القضية قد تكون فرصتنا الأخيرة لحلها. إذا فشلنا هذه المرة، سيتم سحب الملف بالكامل وتسليمه إلى قسم آخر يملك خبرات أوسع. وهذا سيؤثر بشدة على سمعة قسمنا في المملكة. ” توقف للحظة، ثم نظر إليها بثقة : “ لكنني أؤمن بك يا ليان. أعتقد أنك الشخص الذي يستطيع إنهاء هذه القضية وإنقاذ سمعتنا. الأمر ليس سهلاً، لكنه فرصتك لإثبات أنك لا تقلين عن أي محقق آخر، سواء بشهادة أو بدونها. ” كانت ليان تشعر بثقل المسؤولية، لكن بداخلها شعلة من الحماس كانت تشتعل ببطء. ليان ( بصوت مليء بالتصميم :) “ أعدك أنني لن أخذلكم. سأبذل قصارى جهدي لحلها. ” رئيس الفريق ( يبتسم بثقة :) “ ِ هذا ما أردت سماعه. اذهبي الآن، الملف على مكتبك. أريد منك أن تضعي بصمتك عليه. ” توجهت ليان مسرعة إلى مكتبها، ولم تستطع إخفاء الابتسامة التي زينت وجهها. ملامح الفرح والحماس كانت واضحة عليها، مما أثار فضول زملائها الذين بدأوا يتساءلون عما حدث. أحد الزملاء : “ ما بالها ليان؟ لماذا تبدو وكأنها حصلت على جائزة؟ ” آخر بنبرة تملؤها الغيرة : “ أظن أن الأمر لا يبشر بالخير بالنسبة لنا. ” سرعان ما عرف الفريق الخبر، وأن ليان قد وُ كلت بقضية لتعمل عليها بمفردها. كانت هذه فرصة نادرة لم يحصل عليها معظمهم إلا بعد سنوات من الخبرة. غطت مشاعر الغيرة على وجوه البعض، وبدأت الهمسات تدور في الأرجاء : “ لماذا هي بالذات؟ ” 17 “ على وجودها هنا سوى بضعة أشهر، بينما نحن ننتظر هذه الفرصة منذ سنوات. ِ لم يمض ” أما ليان، فلم تلتفت إلى تلك الأحاديث. جلست على مكتبها، فتحت الملف بين يديها، وأخذت نفسًا عميقًا وهي تهمس لنفسها بابتسامة واثقة : “ ّ لا شيء صعب عليّ. من سوء حظك أنك وقعت بين يدي ! ههههه. ” بدأت ليان في دراسة القضية بتركيز شديد. تنقلت بين الصفحات، تقلب الأدلة والصور وتراجع التقارير السابقة. كانت القضية معقدة بشكل لم تعهده من قبل، وهذا ما جعلها تستغرق وقتًا أطول من المعتاد. مع مرور الايام والاسابيع، بدأ القلق يتسلل إليها. لم يكن من طبيعتها أن تأخذ كل هذا الوقت لحل قضية. هذه القضية كانت مختلفة... فريدة من نوعها. ليان ( تحدث نفسها :) “ هذه ليست مجرد قضية عادية... هناك شيء مختلف هنا. علي ّ التركيز أكثر. ” كانت الأدلة مبعثرة، والخيوط متشابكة. شعرت للحظة أن القضية تحمل في طياتها لغزً ا مخفيًا، وأنها بحاجة إلى التفكير خارج الصندوق. بعد مرور شهر منذ أن وكلت بهذه القضية، دوى صوت طرق على باب منزلها ليكسر هدوء المساء. نهضت ليان بسرعة نحو الباب، تتسلل إليها موجات من القلق. اقتربت وسألت بنبرة حذرة : من يكون؟ تراجعت خطوة للخلف، خائفة من أن يكون عمها قد عاد مجددًا ليفتح موضوع الإرث الذي لم تعد تملك طاقة لمناقشته. لكنها سمعت صوتًا مختلفًا : ليان؟ تجمدت مكانها لوهلة، ثم أجابت بخوف يرافقه تعجب : ليان : من أنت؟ وكيف تعرف منزلي واسمي؟ أجاب الطارق بنبرة هادئة : • أنا جارك، رائد. وصلتني الأخبار متأخرة بأنك أفقت ِ من غيبوبتك. الحمد لله على سلامتك. 18 بدأت ليان تلتقط أنفاسها تدريجيًا، وشيئًا فشيئًا تسللت الذكريات إلى ذهنها. رائد... كان يكبرها بخمس سنوات، وكانت تذكر كم أحب والدها هذا الرجل الذي ساعده كثيرً ا، خاصة في إصلاح السيارات. فتحت الباب قليلاً، نظرت إليه لتتأكد، ثم فتحت الباب على مصراعيه : أهلا ً رائد. أعتذر، لقد نسيتك لبعض الوقت. أشارت له بالدخول، وقادته إلى غرفة المعيشة. جلست مقابله وهي تحاول استجماع أفكارها، بينما راح هو يتفحص الغرفة بحنين ظاهر على ملامحه. قالت مبتسمة رغم التعب الذي بدا عليها : ما أخبارك يا رائد؟ لقد جار عليك الزمان... بدأ الشيب يظهر على شعرك ! ضحك رائد بخفة، وقال : ما زلت في الـ 32 من عمري، لكن يبدو أن صحتي تدهورت قليلا ً بعد وفاة والدك. كان أعز جار لي، وأنت ِ تعلمين كم أحبني أيضًا. أطرقت ليان رأسها بحزن : عظم الله أجرنا جميعًا. فقدت عائلتي بلحظة واحدة، وكان ذلك أمرً ا مؤلمًا... وما زال كذلك. لكنني سأحاول أن أتخطى لأتمكن من الالتفات لحياتي. هز رائد رأسه بتفهم وقال : سمعت أنك ِ تعملين الآن في قسم للتحقيق. لكن كيف؟ أنت ِ لا تملكين شهادة، ولم تدخلي الجامعة حتى ! رفعت ليان حاجبيها بدهشة : قصة طويلة. لكن الأرزاق بيد الله. حصلت على وظيفة أحلامي، وكانت بمثابة عزاء لي بعد ما حدث. الحمد لله. لكن... كيف عرفت؟ القسم الذي أعمل فيه بعيد عن هذه المنطقة، ولا أملك معارف هنا لتصلهم الأخبار عني. ابتسم رائد بخجل وقال ضاحكًا : رأيتك تخرجين من المنزل ذات يوم، ولحقت بك لأطمئن على صحتك. لكنني رأيتك تدخلين القسم، وسألت السكرتير عنك. أخبرني أنك ِ الموظفة الجديدة ذات القصة الغريبة ! ابتسمت ليان بخفة، ثم نهضت قائلة : بالمناسبة، ماذا تود أن تشرب؟ 19 نظر رائد نحوها وقال دون تردد : قهوة سوداء مع القليل من الريد بول، لو سمحتِ. رفعت ليان حاجبيها بدهشة وهي تقول : قهوة سوداء مع ريد بول؟ هذه خلطة غريبة وخطيرة، كيف تشربها؟ ً ضحك رائد قائلا : إنها تعطي مفعولا ً سريعًا... تحتاجين لتجربتها يومًا ما ! هزت ليان رأسها بتعجب، ثم قالت : حسنًا، سأعدها لك، لكنني لن أجرؤ على تذوقها ! غابت ليان للحظات في المطبخ، وعندما عادت كانت تحمل كوبًا ساخنًا تفوح منه رائحة القهوة الممزوجة بشيء غير معتاد. وضعت الكوب أمام رائد، ثم جلست وهي تراقبه بفضول : لن أكذب، أريد أن أرى كيف ستشربها دون أن تتردد ! ضحك رائد وقال : شاهدي وتعلمي ! رفع الكوب إلى شفتيه بيده اليسرى وارتشف رشفة صغيرة، ثم أطلق تنهيدة ارتياح، وكأن هذه الخلطة الغريبة هي ما كان يحتاجه بالضبط. لكن ليان نظرت إليه باستغراب وقالت : رائد ! تشرب بيدك اليسار؟ كان يجب أن تبدأ باليمين. ضحك قليلا ً وقال وهو يغير الكوب إلى يده اليمنى : معك حق، عادة سيئة لم أستطع التخلص منها. ابتسمت ليان وقالت : إذن، يجب أن تعتاد على فعل الأمور بالشكل الصحيح من الآن فصاعدًا ! نظر إليها بابتسامة خفيفة وقال : سأحاول، إن كان ذلك سيرضيكِ . بعد لحظات قليلة أنهى رائد كوبه، وودع ليان قبل أن يغادر المنزل. أغلقت الباب خلفه وعادت لتجلس، حيث كانت القضية بانتظارها. حاولت التركيز مجددًا، لكن إحساسًا بالتعب 20 بدأ يسيطر عليها، مصحوبًا بصوت صفير خفيف في أذنها. وضعت الأوراق جانبًا ونهضت قائلة لنفسها : أحتاج إلى النوم قليلاً . توجهت إلى غرفتها وألقت بنفسها على السرير. سرعان ما أخذها النعاس، لتجد نفسها غارقة ً في حلم غريب. في الحلم، كانت شخصًا آخر تمامًا، ورأت نفسها تقتل شخصًا مجهولا ! استيقظت فجأة وهي تلهث، يحيط بها ظلام الغرفة. نهضت ببطء وتوجهت إلى المطبخ لتشرب كوبًا من الماء. أثناء شربها، وقعت عيناها على كوب القهوة مع الريد بول الذي تركه رائد. ابتسمت بخفة وهي تهمس لنفسها : هذا رجل غريب جدًا... ضحكت بصوت خافت ثم عادت إلى غرفتها، وقررت محاولة النوم مجددًا وغطت في سبات عميق.